الفصل الرابع

الأسلام الصوفي العراقي

 

ميزوبوتاميا ـ جنيف

 

                                  

 

ان (التصوف) و(العرفان)، مسميان لمعنى واحد: ( الايمان بوحدانية الوجود والميل الى الزهد بالاعتكاف عن مباهج الدنيا). هذا الفكر الوحداني الزهدي، تسميته الأصلية هي (العرفانية) التي تعود الى ما قبل الأسلام، حيث ترجمها الاغريق الى (الغنوصية ـ GNOSE). لكن تسمية(التصوف) قد استخدمت بعد الاسلام، حيث استمر هذا الفكر العرفاني بعد تلبسه بالخصوصيات الاسلامية. حينها شاعت تسمية(التصوف) واصبحت تطلق حصرا على الطرق الصوفية ذات المذاهب السنية، بينما بقيت تسمية(العرفانية) تستخدم لدى ابناء المذاهب الشيعية. لهذا فأننا نستخدم في موضوعنا الحالي التسميتين(العرفانية والصوفية) بنفس المعنى .

العرفان، بطبعه فكر انساني منفتح ومتسامح ، لا يحمل موقفا متعصبا ضد أي مذهب او دين ، سواء كان اسلاميا او غيره. لهذا فأن انتشار التصوف(والعرفان) يلعب دورا مهما بتخفيف حدة التعصب المذهبي والديني، ويشكل اساسا للتقارب بين الطوائف المختلفة.  التصوف بالاساس  قائم على اساس عقيدة(وحدة الوجود) أي (وحدة الخالق والمخلوق) أي ما يسمى بـ (المذهب الحلولي) حيث تحل ( روح الله) في كل مخلوقاته وأولها الانسان الذي يعتبر اشبه بالغصن او الورقة في الشجرة الالهية العظمى. وهذا الموقف الصوفي العرفاني، يضفي قدسيةعلى الانسان ويمنحه ثقة كبرى بذاته وخلقته وكيانه، وبالتالي يخفف من شعوره بعبثية الحياة ويضعف تلك الطروحات المتشائمة السائدة التي تحتقر الانسان سواء بأسم الدين والروحاينة او بأسم العلم والمادية.. 

لكن مشكلة العرفانية، انها تميز بصورة تناقضية بين (روح الانسان) و(بدنه).. فتعتبر ان الروح وحدها هي (الجانب الالهي) من الانسان، اما بدنه وكذلك كل الواقع المادي، هو جزء من الوجود الشيطاني المظلم. لهذا على الانسان الصوفي العرفاني، ان يحتقر بدنه ويدجنه بواسطة التجويع والتنسك، لكي يحرر روحه الالهية من سيطرة القوى المادية الشيطانية. إذن العرفانية تؤمن بوحدة الخالق والمخلوق، وترفض التعصب وتشجع على المحبة والتسامح، لكنها تحتقر البدن والواقع وتشجع على الزهد والعزلة..  

 

 

معنى التصوف والعرفان

عموما انقسم العرفان الى عرفان فكري فلسفي وعرفان حياتي زهدي. وفي التاريخ ما قبل الاسلامي، برزت التيارات الفلسفية العرفانية، مثل الافلاطونية الجديدة والهرمزية في مصر وعموم الشرق، اما التيارت العقائدية(الدينية) فتمثلت بالمندائية والمسيحية والمانوية .

في العصر الاسلامي، ظهر العديد من الفلاسفة العرفانيين، مثل الكندي وابن سينا وابن طفيل وابن عربي والغزالي وغيرهم الكثيرون، بالاضافة الى جماعات فلسفية عرفانية مثل اخوان الصفا والحركة الاسماعيلية. اما الشخصيات العقائدية الدينية المسلمة، فمن اشهرهم النفري والحلاج والمحاسبي، ثم يليهم مؤسسي الطرق الصوفية مثل الرفاعي والكيلاني وغيرهم .

ان العرفان يتميز بناحيتين اساسيتين، فكرية وحياتية، بالاضافة الى ناحية ثالثة غير اساسية اضيفت فيما بعد:

ـ الناحية الفكرية: انه يتبنى عقيدة( وحدة الوجود)، أي (وحدة الخالق والمخلوق)، وتسمى ايضا(الحلولية) حيث تحل روح الله في كل المخلوقات. ان الاديان السماوية تختلف عن (العرفانية)، إذ تميز تماما بين (الخالق والمخلوق) حيث يعتبر الله سبحانه وتعالى كينونة علوية تمتلك كل القدرات المطلقة، اما الانسان وباقي المخلوقات، فهي كائنا (دنيوية) تابعة تماما لمشيئة الرب. بينماالعرفانية( والتصوف) فتعتبر الانسان وجميع المخلوق اجزاء من كينونة الخالق وتمتلك نفس صفاته ولكن بدرجة اقل. ان العلاقة بين الخالق والمخلوق مثل العلاقة بين جذع الشجرة واوراقها، او مثل علاقة الموجة ببحرها، او مثل علاقة العضو بباقي البدن..انها علاقة تكاملية. ولهذا قال المتصوفة ومن اشهرهم الحلاج( الله في جبتي.. أوأنا ألله)..

ـ الناحية الحياتية: وهي ناحية معروفة قائمة على اساس الزهد والتنسك والابتعاد عن ملذات الحياة. ويتم تبرير هذا الزهد، على اساس ان الحياة الحالية هي حياة مادية ثانوية عابرة، حيث يسجن فيها الجانب الالهي من الانسان(أي روحه) في (سجن البدن) وشهوات المادة. لهذا على الانسان العمل على مساعدة روحه على الانعتاق من هذا السجن البدني وتهيئتها للصعود على اعالي الروح الالهية الكلية..

ـ الناحية الطقوسية: وهي ناحية قد اضيفت فيما بعد على التصوف، بعد ظهور الطرق الصوفية العديدة، مثل القادرية والرفاعية والنقشبندية، وغيرها. وهي طقوس عديدة تتمثل بالرقص والتراتيل وممارسة الخوارق مثل الدرباش والسير على الجمر وغيرها من الامور..

 

  

 

جذور التصوف والعرفان

من المعلوم ان التصوف الاسلامي، هو امتداد طبيعي لعقيدة (وحدة الوجود العرفانية) التي بدأت تنتشر في الشرق الاوسط، بالذات في العراق والشام ومصر، منذ القرن الثالث قبل الميلاد. وهي عقيدة تحاول ان تمزج بين (روحانية الشرق الآسيوي ومنطق الاغريق). فبعد سقوط آخر دولة عراقية في القرن السادس قبل الميلاد على يد الفرس، واحتلال الشام ومصر من قبل الاغريق ثم الرومان، بدأ يتغلغل في هذه البلدان تياران دينيان جديدان: التيار الديني الآسيوي(الهندي الصيني) المتضمن (عقيدة وحدة الوجود)عن طريق ايران، ثم التيار الفكري اليوناني(علم المنطق) عن طريق الاغريق انفسهم ثم الرومان. لقد امتزج هذا التياران الجديدان مع ديانة عبادة الكواكب العراقية وديانة البعل الشامية وديانة خلود الآخرة المصرية. نتج من هذا مزيج يجمع بين (عقيدة وحدة الوجود الآسيوية) و(المنطق الاغريقي) و(عقيدة المهدي ـ المسيح ـ المخلص) العراقية، وعقيدة(الخلود الآخروي) المصرية.

تجدر الاشارة، ان (مفهوم وحدة الوجود) في اصله هو مذهب آسيوي واضح الحضور في الاديان الصينية والهندية، مثل البوذية والتاوية والهندوسية. بينما اديان البحر المتوسط( بضفتيه الاوربية والشرقية) هي بطبعها اديان ثنائية تميز بصورة واضحة بين(الخالق والمخلوق). فالديانة العراقية القديمة وكذلك المصرية والشامية، بالاضافة الى الأديان السماوية، جميعها بدرجات مختلفة تعتبر القوى الالهية مقيمة في السماء العليا ومنفصلة جوهرياً عن مخلوقاتها على الارض .    

 تمثلت هذه العرفانية التي اطلق عليها الاغريق تسمية(الغنوصية ـ وهي ترجمة حرفية لكلمة عرفان الآرامية) في عدة مذاهب، مثل( الافلاطونية الجديدة) في مصر، و(الطائفة العيسانية) في فلسطين التي كان ينتمي اليها (يوحنا المعمدان) وهي التي هيأت لانبثاق المسيحية. علما ان المسيحية تعتبر افضل تعبير عن العرفانية، حيث اعتبر السيد المسيح (روح الله) وانه(تموز المنقذ ـ العراقي ـ) الذي اتى لـ (يخصب) نفوس البشر وينقذ (ارواحهم الالهية ـ الحلولية ألاسيوية) من سجن البدن (ملكوت الشيطان)، الى خلود الاخرة(المصرية) (ملكوت السماء).. اما في العراق فقد تمثلت العرفانية بطائفة الصابئة وكذلك المانوية.  في اليهودية، تمثلت العرفانية بمذهب(القبالة). وقد دخلت هذه العرفانية في الاسلام، منذ نشأته الاولى. وحسب العرفانيين الشيعة والمتصوفة، ان هنالك الكثير من الآيات القرآنية والاحاديث النبوية التي تدل على عقيدة وحدة الوجود،وبالذات السور المكية ذات المسحة الروحانية الحلولية، منها مثلا (سورة النجم) التي ترد فيها ( سدرة المنتهى ) التي تعني حسب العرفانيين (شجرة الوجود الكلي) حيث الاله جذرها وجذعها، والمخلوقات اوراقها. وهنالك تفسير (عرفاني) للقرآن الكريم، كما لدى (ابن عربي) و(السهروردي) وغيرهم، يعتمد اساسا على (المعنى الرمزي) ويرفض المعاني الواقعية المباشرة. وهذا التفسير على نقيض تام للتفسير الحنبلي، الواقعي المادي المباشر. حيث يعتقد المتصوفة، ان للانسان ثلاث كيانات، هي (النفس ـ الجانب البدني الحياتي) و(الروح ـ الجانب الالهي)، ثم(القلب ـ الجانب الوسطي العقلي بين الاثنين)، وتفسر جميع الآيات القرآنية على اساس علاقتها بهذه الجوانب الثلاثة. يعتبر (المذهب الاسماعيلي) اكثر المذاهب الشيعية الاسلامية تبنياً للعرفانية، بل انه تبنى تقريبا بصورة حرفية (اسطورة الخليقة) العراقية.

 

في الحضرة الكيلانية مسابح وبخور ..

الحضرة الكيلانية في بغداد

 

التصوف العراقي

اننا نعرف تاريخ الفكر العرفاني، لكننا لا نعرف بالضبط من بدأ التصوف في الاسلام. يقال بأن التصوف اول ما ظهر في العراق في الكوفة، وهذا امر معقول، حيث ان التيارات العرفانية كانت سائدة بين العراقيين قبل الاسلام، مثل(المندائية) و(المانوية) و(التنسك المسيحي). ان اول من عرف بالصوفي هو (ابوهاشم الكوفي) سنة 150هـ" . وقد بلغ التصوف ذروته في نهاية القرن الثالث الهجري. وواصلت الصوفية انتشارها في العراق ثم ايران ومصر والمغرب, وظهرت من خلالها الطرق الصوفية .

 ظهر التصوف في القرن الثالث الهجري كنزعات فردية تدعو الى الزهد وشدة العبادة كرد فعل مضاد للانغماس في الترف الحضاري. ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرقا مميزة معروفة باسم الصوفية. ولا شك ان ما يدعو اليه الصوفية من الزهد والورع والتوبة والرضا, انما هي أمور من الاسلام الذي يحث على التمسك بها والعمل من اجلها, فالمتصوفة يتوخون تربية النفس والسمو بها بغية الوصول الى معرفة الله تعالى بالكشف والمشاهدة لا عن طريق اتباع الوسائل الشرعية. وقد تنوعت وتباينت آراء الناس وتوجهاتهم نحو تلك الحركة لأن ظاهرها لا يدل على باطنها.

جميع المؤرخون يتفقون على ان التصوف نشأ وترعرع في العراق، حيث برزت اسماء كبرى قد ساهمت بتأسيسه، منها: الحسن البصري، داود بن نصير الطائي، رابعة العدوية، معروف الكرخي ، السري السقطي، الجنيد البغدادي، وغيرهم الكثيرون . 

علماً ان جميع الطرق الصوفية تتفق على تقديس(الامام علي) وكذلك( الخضر) ( عليهم السلام ) المذكور في القرآن الكريم. ويضفي المتصوفة على  هاتين الشخصيتين صفات قدسية ونوعا من الخلود والقدرات الاخصابية والاحيائية، تذكر كثيراً بشخصية( تموز) في الديانة العراقية القديمة. وليس بالصدفة ان تسمية(الخضر) تعني الخضرة والخصوبة مثل اله الخصب العراقي(تموز)، وكذلك الامام(علي) ( ع ) وهي نفس تسمية(ايليا) وتعني (الاله) أي (العالي) في الديانتين العراقية والشامية القديمتين!

اما لدى الشيعة فقد اطلقوا على التصوف اسمه الحقيقي الاصلي (العرفان) أي ما اسمو بـ (العرفان الشيعي)، وهو اثني عشري كان أم اسماعيلي ، يدور حول الإمام ، العقيدة والفلسفة والتاريخ والسياسة، كل ذلك يعيشه الشيعة من خلال ارتباطهم الروحي بالإمام فالزمان العرفاني، إذن، زمان روحي باطني، قوامه الارتباط بالإمام، ومراحله وسلم الارتقاء فيه هي مراحل وسلم الارتقاء او «الحج» الى الامام. اما العلاقة بين الشيعة والمتصوفة كانت مطبوعة بطابع المقاربة احيانا والتنافس احيانا اخرى. فهم يتفقون على تقديس الامام علي ( ع ) والسيدة فاطمة الزهراء ( ع ) ، ولكنهم يختلفون في الموقف من الدولة، حيث منذ البدء هادن المتصوفة الدولة العباسية بسبب علاقة المذاهب السنية بهذه الدولة، بينما الشيعة كانوا ضدها .

ـ يخلط الكثيرون بين الزهد والتصوف ومن هنا كان تأثر الكثيرين بالتصوف, فالزهد ليس معناه هجر المال والاولاد, وتعذيب النفس والبدن بالسهر الطويل والجوع الشديد والاعتزال في البيوت المظلمة والصمت الطويل, وعدم التزوج, لان اتخاذ مثل ذلك نمطا للحياة يعد سلوكا سلبيا يؤدي الى فساد التصور, واختلال التفكير الذي يترتب عليه الانطواء والبعد عن العمل الذي لا يستغني عنه اي عضو فعال في مجتمع ما, كما يؤدي بالأمة الى الضعف والتخلي عن الدور الحضاري الذي ينتظر منها.

اصل التسمية

هنالك تخمينيات كثيرة حول اصل تسمية(الصوفية). هنالك من يعتقد انها من (الصوف) حيث كان الزهاد يرتدون (الصوف الابيض). وهنالك من يعتقد انها تعود الى ( اهل الصفة) وكان لقبا اعطي لبعض فقراء المسلمين في عهد الرسول ( ص ) ممن لم تكن لهم بيوت يؤون اليها فأمر الرسول ( ص ) ببناء فناء ملحق بالمسجد من اجلهم, وهذا يوضح ادعاء المتصوفة بربط التصوف بعصر النبي ( ص ) وانه أقر النواة الصوفية الأولى, مع العلم ان اهل الصفة ما كانوا منقطعين عن الناس لأجل الزهد الصوفي. وهنالك من يقول انها تعود الى (الصفاء) ومعناها ان الصوفية صافية من الشرور وشهوات الدنيا. بعض الصوفية ينسبون انفسهم الى الصف الاول من المؤمنين في الصلاة .

لكننا نميل الى التفسير التالي. ان تسمية(الصوفي) متأتية من الجذور التالية(الصفاء والشفاء والآسي) وكلها بمعنى (الشفاء) وتنقية النفس. علما بأن الطبيب في العراق القديم (الاكدية) كان يسمى(آسي) وهي نفسها في العربية ، منها (واسى) أي خفف من الالم .

معتقداتهم

هنالك تقديس خاص لدى المتصوفة لشخصية(الخضر) ( ع ) المذكورة في القرآن الكريم . قصة الخضر( ع ) التي وردت في القرآن الكريم في سورة الكهف, فسرالمتصوفة معانيها واهدافها ومراميها وجعلوها عمودا من اعمدة العقيدة (الصوفية) وجعلوا هذه القصة دليلا على ان هناك ظاهرا شرعيا, وحقيقة صوفية تخالف الظاهر وجعلوا انكار علماء الشريعة على علماء الحقيقة امرا مستغربا, وجعل الصوفية الخضر ( ع ) مصدرا للوحي والالهام والعقائد والتشريع, ونسبوا طائفة كبيرة من علومهم التي ابتدعوها الى الخضر وليس منهم صغير او كبير ممن دخل في طريقهم الا وادعى لقيا الخضر والأخذ عنه .

تختلف العقيدة الصوفية عن بعض المفاهيم الاسلامية المعروفة من اهمها: مصدر المعرفة الدينية, ففي الاسلام لا تثبت عقيدة إلا بقرآن وسنة لكن في التصوف تثبت العقيدة بالالهام والوحي  للأولياء والاتصال بالجن الذين يسمونهم الروحانيين, وبعروج الروح الى السماوات, وبالفناء في الله, وانجلاء مرآة القلب حتى يظهر الغيب كله للولي الصوفي حسب, وبالكشف, وبربط القلب بالرسول ( ص ) حيث يستمد العلوم منه. واما القرآن والسنة فإن للصوفية فيهما تفسيرا باطنيا حيث يسمونه احيانا تفسير الاشارة ومعاني الحروف فيقولون ان لكل حرف في القرآن معنى لا يطلع عليه إلا الصوفي المتبحر, المكشوف عن قلبه .

يعتقد الصوفية في الرسول ( ص ) عقائد شتى فمنهم من يزعم ان الرسول وسلا يصل الى مرتبتهم وحالهم بعلوم رجال التصوف كما قال البسطامي: "خضنا بحرا وقف الأنبياء بساحله" ومنهم من يعظم الرسول الى درجة الوصول الى الألوهية حيث يعتقد البعض من الصوفية ان الرسول هو قبة الكون وهو الله المستوي على العرش وان السماوات والارض والعرش والكرسي وكل الكائنات خلقت من نوره وانه اول موجود وهو المستوي على عرش الله وهذه عقيدة ابن عربي ومن جاء بعده .

يرى الصوفية ان الولي هو: "من يتولى الله سبحانه امره فلا يكله الى نفسه لحظة, ومن يتولى عبادة الله وطاعته, فعبارته تجري على التوالي من غير ان يتخللها عصيان" وحقيقة الولي عند الصوفية انه يسلب من جميع الصفات البشرية ويتحلى بالاخلاق الالهية ظاهرا وباطنا , حيث يعتقد الصوفية في الأولياء بأن لهم القدرة على انزال المطر وشفاء الأمراض واحياء الموتى وحفظ العالم من الدمار. الصوفية يعتقدون ان طلب الجنة والفرار من النار ليس هدفا , فالله يعبد لذاته حيث يقول المتصوفة ان العبادة الحقة هي ما كانت دون طلب العوض من الله وان يشهد فيها فعل الله لا فعل العبد. ان طلب الجنة منقصة عظيمة وانه لا يجوز للولي ان يسعى اليها ولا ان يطلبها ومن طلبها فهو ناقص, وانما الطلب عندهم والرغبة في الفناء في الله, والاطلاع على الغيب والتعريف في الكون.. . واما النار فإن الصوفية يعتقدون ايضا ان الفرار منها لا يليق بالصوفي الكامل لان الخوف منها طبع العبيد وليس الاحرار.

يعتقد الصوفية ان الصلاة والصوم والحج والزكاة عبادات العوام وأما هم فيسمون انفسهم الخاصة ولذلك فعباداتهم مخصوصة وان تشابهت ظاهرا . واذا كانت العبادات في الاسلام لتزكية النفس وتطهير المجتمع فإن العبادات في التصوف هدفها ربط القلب بالله تعالى للتلقي عنه مباشرة حسب قولهم والفناء فيه واستمداد الغيب من الرسول صلى الله عليه وسلم والتخلق باخلاق الله حتى يقول الصوفي للشيء كن فيكون ويطلع على اسرار الخلق, ولا يهم في التصوف ان تخالف الشريعة الصوفية ظاهر الشريعة الاسلامية, فالحشيش والخمر واختلاط النساء بالرجال في الموالد وحلقات الذكر كل ذلك لا يهم لأن للولي شريعته تلقاها من الله مباشرة.

 

جلال الدين الرومي.. بين الشعر والتصوف

 

اذكار الصوفية

يقوم المتصوفة بترديد الذكر"لا اله الا الله" فالصوفية يذكرون اسم الله مفردا بقولهم "الله الله الله" او مضمرا بقولهم "هو, هو, هو" وبعضهم فسر ذلك بقوله اخشى ان تقبض روحي وأنا اقول "لا إله...." ومن الصلوات التي ابتدعها المتصوفة صلاة الفاتح التي تقول: "اللهم صلي على سيدنا محمد الفاتح لما اغلق, والخاتم لم سبق, وناصر الحق بالحق...." الى آخره. وهناك ورد اطلق عليه المتصوفة جوهرة الكمال وهي من أورادهم اللازمة التي لها حكم الفرض العيني ونصه "اللهم صلي وسلم على عين الرحمة الربانية, والياقوتة المتحققة الحائطة بمركز الفهوم والمعاني , ونور الأكوان المتكونة .

في المجتمع الصوفي ينتشر ما يسمى بالسماع والتغني بالاشعار مع دق الطبول وهذا يقصد به الصوفية عبادة الله تعالى, ويتضح تأثر الصوفية به الا ان كثيرا من الذين بحثوا في هذا الجانب يؤكدون على ان الصوفية يتأثرون بالسماع من خلال الالحان والاشعار والطبول مع تأثرهم بالقرآن يقول الشعراني: "وكان اذا سمع القرآن لا تقطر له دمعة, واذا سمع شعرا قامت قيامته"..

معنى الطريقة الصوفية

على الرغم من صعوبة تحديد المراد بالطريقة والوصول لمفهوم موحد لجميع الطرق الصوفية الا اننا سنعرض بعضا من المعاني التي وردت حول الطريقة الصوفية فمنها ان الطريقة الصوفية تعني النسبة او الانتساب الى شيخ يزعم لنفسه الترقي في ميادين التصوف والوصول الى رتبة الشيخ المربي ويدعي لنفسه رتبة صوفية من مراتب الأولياء. كما انها تعنى: ان يختار جماعة من المريدين شيخا لهم يسلك بهم رياضة خاصة بهم على دعوى  تصفية القلب لغاية الوصول الى معرفة الله .

كما وصفها الشيخ الجزائري بقوله انها تعني اتصال المريد بالشيخ وارتباطه به حيا أو ميتا وذلك بواسطة ورد من الأذكار يقوم به المريد بإذن من الشيخ أول النهار وآخره, ويلتزم به بموجب عقد بينه وبين الشيخ, وهذا العقد يعرف بالعهد, وصورته ان يتعهد الشيخ بان يخلص المريد من كل شدة ويخرجه من كل محنة متى ناداه مستعينا به, كما يشفع له يوم القيامة في دخول الجنة. ويتعهد المريد بان يلتزم بالورد وآدابه فلا يتركه مدى الحياة كما يلتزم بلزوم الطريقة وعدم استبدالها بغيرها من سائر الطرق .

والتصريح بضمان الجنة للمريد امر مشهور عندهم وهو اكبر من مجرد الشفاعة يوم القيامة . احد مشايخ الصوفية وهو الشيخ التيجاني يقول: وليس لأحد من الرجال ان يدخل كافة أصحابه الجنة بغير حساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلا أنا وحدي .

كل طريقة صوفية تحاول ان يكون لها ذكر خاص تنفرد به عن سائر الطرق, وان يكون لهذا الذكر ميزة خاصة ولكل طريقة مشاعر خاصة من حيث لون العلم والخرقة وطريقة الذكر ونظام الخلوة, والطرق يتوارثها الابناء من الآباء وذلك ان الطريقة التي تستطيع جلب عدد كبير من المريدين والتابعين تصبح بعد مدة اقطاعية دينية تفد الوفود الى رئيسها او شيخها من كل ناحية, وتأتيه الصدقات والهبات والبركات من كل حدب وصوب وحيثما حل الشيخ في مكان ذبحت الطيور والخرفان. والطرق الصوفية وان اختلفت وتباينت فانها تتفق فيما يلي:

* الاحتفال بدخول المريد في الطريقة بطقوس دقيقة مرسومة, وقد يتطلب بعض الطرق من المريد ان يمضي وقتا شاقا في الاستعداد للدخول .

* التقيد بزي خاص, فلابد أن يكون هناك نوع خاص من الزي يمثل رمز أصحاب الطريقة الذي يلبسونه فيميزهم عن غيرهم .

* اجتياز المريد مرحلة شاقة من الخلوة والصلاة والصيام وغير ذلك من الرياضات .

* الاكثار من الذكر مع الاستعانة بالموسيقى والحركات البدنية المختلفة التي تساعد على الوجد والجذب .

* الاعتقاد في القوى السرية الخارقة للعادة التي يكتسبها المريدون بالمجاهدات وهي القوى التي تمكنهم من أكل الجمر, والتأثير على الثعابين, والإخبار بالمغيبات .

* احترام شيخ الطريقة الى درجة التقديس .

 

     

 

نشأة الطرق الصوفية

وضع أبو سعيد محمد أحمد الميهي الصوفي 430هـ أول هيكل تنظيمي للطرق الصوفية بجعله متسلسلا عن طريق الوراثة, ويمثل القرن السادس الهجري البداية الفعلية للطرق الصوفية وانتشارها حيث انتقلت من العراق إلى المشرق الإسلامي. ظهرت اولا في العراق الطريقة الرفاعية المنسوبة لأبي العباس الرفاعي 540هـ , وفي القرن السابع الهجري، كذلك الطريقة القادرية في بغداد.  دخل التصوف الأندلس وأصبح ابن عربي أحد رؤوس الصوفية 638هـ . واستمرت الصوفية بعد ذلك في القرون التالية إذ انتشرت الفوضى واختلط الأمر على الصوفية لاختلاط افكار المدارس الصوفية وبدأت مرحلة الدراويش .

نماذج من الطرق الصوفية

[ الطريقة القادرية وتسمى الكيلانية: أسسها عبدالقادر الكيلاني المتوفى في بغداد سنة 561هـ , يقول اتباعه انه أخذ الخرقة والتصوف عن الحسن البصري عن الحسن بن علي بن أبي طالب ( ع ) , كما نسبوا إليه من الأمور العظيمة فيما لا يقدر عليها إلا الله تعالى من معرفة الغيب, وإحياء الموتى وتصرفه في الكون حياً أو ميتاً , بالإضافة إلى مجموعة من الأذكار والأوراد والأقوال التي منها: من استغاث بي في كربة كشفت عنه, ومن نادني في شدة فرجت عنه ومن توسل بي في حاجة قضيت له.

[ الطريقة الرفاعية: تنسب إلى ابي العباس أحمد بن أبي الحسين الرفاعي ويطلق عليها البطائحية نسبة إلى مكان ولاية بالقرب من قرى البطائح بالعراق, وجماعته يستخدمون السيوف ودخول النيران في اثبات الكرامات. قال عنهم الشيخ الآلوسي "وأعظم الناس بلاء في هذا العصر على الدين والدولة مبتدعة الرفاعية, فلا تجد بدعة الا ومنهم مصدرها وعنهم موردها فذكرهم عبارة عن رقص وغناء وعبادة مشايخهم".

[ البدوية: وتنسب الى احمد البدوي 634هـ ولد بفاس في المغرب.

[ الطريقة الدسوقية: تنسب الى ابراهيم الدسوقي 676هـ المدفون بمدينة دسوق في مصر, يدعي المتصوفة انه احد الاقطاب الاربعة الذين يرجع اليهم تدبير الامور في هذا الكون.

[ الطريقة الأكبرية: نسبة الى الشيخ محيي الدين بن عربي الملقب بالشيخ الأكبر 638هـ,.

[ الطريقة الشاذلية: وهي طريقة صوفية تنسب الى ابي الحسن الشاذلي في مصر. [ الطريقة البكداشية: كان الاتراك العثمانيون ينتمون الى هذه الطريقة, وهي لا تزال منتشرة في البانيا, كما انها اقرب الى التصوف الشيعي, وكان لهذه الطريقة اثر بارز في نشر الاسلام بين الاتراك والمغول .

[ الطريقة المولوية: انشأها الشاعر جلال الدين الرومي 672هـ والمدفون بقونية في تركيا.

[ الطريقة النقشبندية: تنسب الى الشيخ بهاء الدين محمد بن البخاري الملقب بشاه نقشبند 791هـ ، كذلك السيد خالد البغدادي.  انتشرت في تركستان اولا ثم ايران والهند والعراق وتركيا وعموم الشرق الاوسط .

[ الطريقة الملامتية: مؤسسها ابوصالح حمدون بن عمار المعروف بالقصار 271هـ اباح بعضهم مخالفة النفس بغية جهادها ومحاربة نقائصها, وقد اظهر الغلاة منهم في تركيا.

[ الطريقة التيجانية: اسسها ابو العباس احمد التيجاني 1230هـ , الذي ولد بالجزائر.

[ الطريقة الختمية: اسسها السوداني محمد عثمان الميرغني .

[ الطريقة البريلوية: وهي فرقة صوفية نشأت في شبه القارة الهندية الباكستانية في مدينة بريلي بالهند ايام الاستعمار البريطاني .

 

مصادر هذه الدراسة

(1) الموسوعة الميسرة في الاديان والمذاهب المعاصرة: الندوة العالمية للشباب الاسلامي.

(2) تقديس الاشخاص في الفكر الصوفي ـ محمد لوح ـ رسالة ماجستير منشورة ـ الجامعة الاسلامية.

(3) الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة ـ عبدالرحمن عبدالخالق.

(4) تاريخ التصوف الاسلامي ـ عبدالرحمن بدوي.

5) هذا الموضوع اعتمد كثيرا على  مقالة كتبها ابراهيم داود الداود جريدة الرياض 13 شوال 1421 هـ

 

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة