شخصيات صوفية

أحمد الرفاعي: العمل شرط "الطريقة"

 

أحمد تمام

 

                                                                   

ولد أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد بن يحيى، المعروف بأحمد الرفاعي في قرية "أم عبيدة" من قرى مدينة "واسط" بالعراق سنة (512 هـ = 1118م)، وشاءت الأقدار أن يُتوفَّى أبوه قبل مولده، فكفله وعني به خاله "منصور البطائحي"، وكان رجلا ورعا صالحًا.

وجاءت شهرته بالرفاعي نسبة إلى جده السابع رفاعة، وكان من أشراف مكة، وغادرها إلى المغرب، واستقر في موطنه الجديد، وظل نسله هناك حتى هاجر أحد أحفاده وهو السيد أبو الحسن علي والد الإمام الرفاعي، ونزل العراق وأقام بقرية أم عبيدة.

عني منصور البطائحي بابن أخته، فحفّظه القرآن، وتلقى الرفاعي مبادئ القراءة والكتابة، ثم بعث به إلى "واسط" فتلقى العلم على شيوخها، وتفقه على المذهب الشافعي، وحفظ كتاب "التنبيه في فقه الشافعية" لأبي إسحاق الشيرازي. وبعد أن نهل من العلم عاد إلى قريته، وبدأت شهرته تتسع، وراحت الأنظار تتجه إليه لعلمه وصلاحه.

معنى التصوف الرفاعي

التصوف الحق ليس انعزالا عن العالم في خلوة أو خانقاه، أو انصرافًا عن دنيا الناس، أو انشغالا بالعبادة عن قضايا الأمة؛ وإنما هو الجهاد في أعلى ذراه، والعلم في أصفى موارده، والخُلُق في أعلى مثله، والقدوة الحسنة في أبهى صورها. إنه الصدق والأمانة، والإيثار والنجدة، ونصرة الضعيف وإغاثة الملهوف، والتعاون على البر والتقوى .

وقد كان الصوفية العظام منارات للهدى، وحصونًا منيعة يلجأ إليها الناس حين تلتوي بهم السبل، ويضلون الطريق، وقدوة صالحة تتعلق بها الأفئدة والقلوب، ولسان صدق يجهر بالحق حين ترتجف الشفاه وترتعد الفرائص .

حلقة الرفاعي

خلف الرفاعي خاله الصوفي الكبير منصور البطائحي في حلقاته ودروسه، وصار له أتباع ومريدون يؤمون مجالسه التي امتلأت بالمئات، وكان رحمه الله ملتزما بالكتاب والسنة، لا يخرج عنهما قيد أنملة.

يقول لتلاميذه ومريديه: "عظموا شأن الفقهاء والعلماء كتعظيم شأن الأولياء والعرفاء، فإن الطريق واحد، وهؤلاء ورّاث ظاهر الشريعة، وحَمَلة أحكامها الذين يعلمونها الناس، وبها يصل الواصلون إلى الله. إذ لا فائدة بالسعي والعمل على الطريق المغاير للشرع، ولو عبد الله العابد خمسمائة عام بطريقة غير شرعية فعبادته راجعة إليه، ووزره عليه، ولا يقيم له الله يوم القيامة وزْنًا، وركعتان من فقيه في دينه أفضل عند الله من ألفي ركعة من فقير جاهل في دينه".

ويؤكد لأصحابه ضرورة الالتزام التام بالكتاب في كثير من كلامه، وكأنه يرد على خصوم التصوف واتهامهم لأصحابه بالابتعاد عن نهج السنة النبوية، فيقول: "كل الآداب منحصرة في متابعة النبي (صلى الله عليه وسلم) قولا وفعلاً وحالا وخلقًا، فالصوفي آدابه تدل على مقامه، زنوا أقواله وأفعاله وأخلاقه بميزان الشرع، يُعْلم لديكم ثقل ميزانه وخفته".

 

ترجمة حضرة السيد الشيخ احمد الكبير الرفاعي قدس الله سره العزيز

مرقد الشيخ الرفاعي في العراق

 

تواضعه

وكان الشيخ - عَلَى جلال قدره وعظم هيبته في نفوس أتباعه -  متواضعًا، ليّن الجانب، يأسر الناس بسلوكه قبل أن يبهرهم بكلامه، ويؤثّر بإخلاصه في القلوب ما لا تفعله فيها مئات الخطب والمواعظ . يقول لأصحابه حين رأى تعظيمًا وإجلالا له: "أنا لست بشيخ، لست بمقدّم على هذا الجمع. حُشرت مع فرعون وهامان إن خطر لي أني شيخ على أحد من خلْق الله، إلا أن يتغمدني الله برحمته، فأكون كآحاد المسلمين".

وقد عَدّ الصوفيَّ الحقيقي هو من يهتم بمجتمعه، ويضع نفسه في خدمة الناس، وقضاء مصالحهم. ويريد من الصوفي الذي سمت نفسه، وتهذبت خلائقه، وعلت روحه، أن يكون إيجابيًا فعالا، وبدأ هو بنفسه فكان يملأ قِرَب الماء، ويجعلها على ظهره وعلى كفِّه، ويوصلها إلى منازل النساء والأرامل، ويجمع لهن الحطب ويوزعه عليهن .

وكان إذا سمع بمريض في قرية- ولو كانت بعيدة- عاده وزاره، ويخرج إلى الطريق ينتظر العميان حتى إذا رأى أحدهم قام إليه وأخذ بيده وقاده إلى حيث يريد، وكان إذا رأى شيخًا كبيرًا ذهب إلى أهل حارته وأوصاهم به .

الدعوة إلى العلم والعمل

كان الرفاعي فقيهًا ملتزمًا، يعبد الله على علم، ويدعو الناس على بصيرة. وتتفق المصادر التي ترجمت له على ذلك، وعدّه "السبكي" فقيهًا شافعيًا، وأفسح له مكانًا في كتابه "طبقات الشافعية"، ووضعه في الطبقة الخامسة منها؛ ولهذا كان يحثّ أتباعه وتلاميذه على طلب العلم وإنفاق الوقت في مدارسته، والارتحال إلى أهله، مرددًا لهم نصيحة شيخه له: "من لا يعرف في العلم نقصانًا، فكل وقته نقصان".

وكان الرفاعي يعمل حتى يضمن لنفسه لقمة العيش التي تمكّنه من عدم الاعتماد على أحد وتحفظ كرامته من سؤال الناس، وكان بوسعه أن يحيا في سعة وبحبوحة لو أراد ذلك، وتكفي إشارة منه لأتباعه الذين كانوا يستجيبون لأي لمحة منه، ولكنه كان متعففًا، قدوة لأصحابه بالعلم والعمل، لا بالكلام والثرثرة. يهتف في أصحابه: "طريقي دين بلا بدعة، وهِمّة بلا كسل، وعمل بلا رياء، وقلب بلا شغل، ونفس بلا شهوة".

وقد بلغ من حرصه على احترام قيمة العمل أنه كان يرفض أن يحضر مجالسه عاطل لا يعمل، واشترط على من يأتي إلى درسه أن يكون له صنعة يعمل بها وحرفة يقتات منها، فإن عجز عن ذلك هيأ له "الرفاعي" حرفة يعمل بها.

نصح الحاكم

ليس غريبًا على الصوفي الحق أن يواجه الظلم ويقوّم المعوّج، وينصح الحكام؛ لأنه بطول المجاهدة والإقبال على الله انقطعت علائق قلبه بزينة الدنيا، وضاعت هيبة ذوي الجاه والسلطان من نفسه، وأصبح له من الله عون ومدد، وأمن ورجاء، فلا تثريب عليه بعد ذلك إن وقف يصدع بالحق، لا يخشى في الله لومة لائم، ويجهر به، لا طمعًا في شهرة، ولا رغبة في دنيا، ولا خوفا من سلطان .

يرى الناس في موقفه هذا أمرًا عظيمًا، وهو كذلك بلا شك، ويراه هو رسالة في عنقه وأمانة في رقبته أن يبصّر الناس والحكام، دون التفات إلى مكانة من يكلمه، فقد ماتت الصور في قلبه، وبقي وجه الله الذي تعلق به.

ومما يُروَى عن الرفاعي أنه كتب إلى الخليفة العباسي "المستنجد بالله" كتابًا جاء فيه: "يا أمير المؤمنين، إن أنت نفذت أحكام الله تعالى في نفسك، نفذت أحكام كتبه في ملكك، وإن عظمت أمر الله، عظم اللهَ عمالك وولاة الأمور من قِبَلك. ثم زن يا أمير المؤمنين كل ما يصل إلى خويصة نفسك في هذه الدنيا من طعام تأكله وشراب تشربه، ورداء ترتديه، واجعل الشره على الدنيا بقدر ذلك، فإن رداءك ما سترك وطعامك ما أشبعك، ومالُك ما لَكَ منه شيء، وعليك بالعقل والدين، وإياك وأرباب القسوة والغدر والضلالة، فهم أعداؤك، وإذا أحببت فحكّم الإنصاف في عملك، وإذا كرهت فاذكر الله، والخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، وساو بين الناس بارًّا وفاجرًا، مؤمنًا وكافرًا". وكان المستنجد بالله من خيرة الخلفاء العباسيين، تولّى الخلافة سنة (555 هـ = 1160م) ودامت خلافته إحدى عشرة سنة، نَعِم الناس خلالها بالعدل والأمن وتخفيف المكوس والضرائب .

الطريقة الرفاعية

تُطلق لفظة الطريقة عند الصوفية المتأخرين على مجموعة أفراد من المتصوفة ينتسبون إلى شيخ معين، ويخضعون لنظام دقيق في السلوك الروحي، ويحيون حياة جماعية في الزوايا والخانقاوات، أو يجتمعون اجتماعات دورية في مناسبات معينة، ويعقدون مجالس الذكر والعلم بانتظام، ومن أشهر تلك الطرق الصوفية: "البدوية" نسبة إلى أحمد البدوي، و"الدسوقية" نسبة إلى إبراهيم الدسوقي، و"الجيلانية" نسبة إلى عبد القادر الجيلاني، و"الرفاعية" نسبة إلى أحمد الرفاعي. ولكل طريقة من هذه الطرق وغيرها أوراد خاصة بها للذكر، وألوان لأزياء أتباعها تُميّزها عن غيرها.

وتقوم الطريقة الرفاعية على العمل بمقتضى ظاهر الكتاب والسنة، ثم أخذ النفس بالمجاهدة والمكابدة، والإكثار من الذكر، وقراءة الورد، وذلك وفق إرشادات الشيخ وتوجيهاته، مع ضرورة التسليم والانقياد له.

وعلى المريد- حتى يسير وفق الرفاعي- أن يتبع تعاليمه، ويعمل بما قاله من الالتزام بالسنة، وموافقة السلف الصالح على حالهم، ولباس ثوب التعرية من الدنيا والنفس، وتحمل البلاء، ولبس الوقار واجتناب الجفاء.

وقد اشتهر عن أتباع الرفاعي القيام بأفعال عجيبة: كاللعب بالثعابين، وركوب الأُسود، والدخول في النيران المشتعلة دون أن تحرقهم أو تؤثر فيهم، وغيرها، فهذه مما لم تكن معروفة عند الشيخ الرفاعي، لكنها استُحدثت بعد وفاته، وإن كان الشيخ قد عُرف بحنانه الشديد على الإنسان والحيوان، وكان أشد ما يكون حدبًا ورعاية للحيوانات الظالة والمريضة.

وفي أصحاب وأتباع الرفاعي يقول الإمام الذهبي في كتابه "العبر": "ولكن أصحابه فيهم الجيد والرديء، وقد كثر  الزغل (الغش)  فيهم، وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت (احتل) التتار العراق: من دخول النيران، وركوب السباع، واللعب بالحيات، وهذا  ما عرفه الشيخ ولا عرفه صلحاء أصحابه.. فنعوذ بالله من الشيطان".

 

مسجد الرفاعي بالقاهرة

 

وفاة الشيخ

والشيخ على زهده وميله عن الدنيا كان حَسَنَ الهيئة، نظيف الملبس، بهي الطلعة، ولم يكن ممن يطلبون الزهد بالثياب الخرقة، والهيئة المبتذلة، وكان لسان حاله يقول: إن الزهد إرادة النفس أن تزهد فيما في يديها عن استطاعة لا عن جبر، وإن القلب منصرف عن التعلق بمتاع الحياة الدنيا لا عن التعامل معه. وهذا ما عبر عنه بقوله: "الزاهد من ترك كل شيء يشغل عن الله". ولم يترك الشيخ كتابًا، وإنما جمع أتباعه شيئًا من أقواله في كتاب أطلقوا عليه "البرهان المؤيّد".

وتُوفّي الشيخ أحمد الرفاعي بقرية أم عبيدة الخميس الموافق (22 من جمادى الأولى 578 هـ = 10 من آب 1182م)، تاركًا آلاف الأتباع ينشرون طريقته التي لا تزال قائمة حتى الآن في العراق ومصر وغيرها من البلاد.

مصادر الدراسة:

- عبد الوهاب السبكي : طبقات الشافعية الكبرى ـ تحقيق محمود محمد الطناحي وعبد الفتاح الحلو ـ هجر للطباعة والنشر ـ القاهرة ـ 1413هـ= 1992م .

- الذهبي : سير أعلام النبلاء ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1410 هـ= 1990م .

- ابن خلكان : وفيات الأعيان ـ تحقيق إحسان عباس ـ دار الثقافة ـ بيروت ـ بدون تاريخ .

          - عامر النجار: الطرق الصوفية في مصر ـ دار المعارف القاهرة ـ 1990م.

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة