شخصيات صوفية

خالد البغدادي، ابن السليمانية وشيخ الطريقة النقشبندية
 
الشيخ فريد الدين آيدن

 

 

تأسست الطريقة النقشبندية في القرن السادس عشر في تركستان (آسيا الوسطى) وبالذات في  بخارى وطشقند، ثم انتشرت في الهند وايران. بعدها انتشرت في العراق وعموم الشرق الاوسط على يد واحد من ابرز شيوخ الطريقة هو السيد خالد البغدادي .

يعتبر السيد(خالد البغدادي) من أهم الشخصيّات البارزة في تاريخ الطريقة النقشبنديّة، وأكثرهم معرفة بالعلوم العقلية والنقلية، وأوسعهم شهرة بين الخاصّة والعامّة، وانجحهم تلوّنًا في استمالة قلوب الناس والاستيلاء على ضمائرهم وإلقاء هيبته عليهم. اسمه الكامل  هو أبو البهاء، ضياء الدين خالد بن أحمد بن الحسين الشهرزوري البغداديّ المعروف بين أتباعه بعنوان »مولانا خالد ذو الجناحين«[1]

ولد البغداديّ عام 1192 من الهجرة الموافق لسنة 1778 من الميلاد بمحل اسمه »قره داغ« على مقربة من مدينة السليمانية العراقيّة. ومات بالطاعون في مدينة دمشق عام 1242 من الهجرة الموافق لسنة 1826 من الميلاد .

اشتغل خالد بالتدريس مدةً في السليمانية وبغداد. بيد أنّ الباحث الحاذق الدقيق إذا اطّلع على ما قد خلّف هذا الشيخ من رسائلَ وحواشٍ وملاحظاتٍ، وما تناقلته اللُّسُنُ عنه من صفاتٍ، وسلوكٍ، وأقوالٍ، وتعليماتٍ موجّهَةٍ منه إلى مريديه وخلفائه؛ وإذا أنعم النظرَ في عباراته وعلاقاته؛ اصطدم بحقائقَ رهيبةٍ، وعَلِمَ بالتأكيد أنه كان يمتاز بمزاج متوتّر، ونفس مترقّبة مُتَجَسِّسَةٍ، وطبيعة نشيطة دسّاسة.

كان خالدٌ ذا طموح وعزيمة لا حدود لهما. أثارتْهُ آمالُهُ إلى المغامرة بما لم يتجرّأ على اقتحامه أحد من رجال الدين في عصره ولا بعده! هذه الطبيعة المستفحلة هي الّتي دفعَتْهُ ليكون دائمّا هو في الصورة. لذلك لم يتّسم بالاستقرار، فلم يصبر على مواصلة البقاء في الأجواء العلمية. بل تلاطمت به الأفكار والتصوّرات، فجعلته يتطلّع إلى عالَمٍ لا يحيط به الزمان والآفاق، ولا يسعه نطاق الكلمات للتّعبير عن حدوده المترامية وجماله البارع؛ اشتاقت نفسه إلى مثل هذا العالم ليرفرف سرمدًا بجناحين من نورٍ في مقدّمةِ موكبٍ من الملائكة فوق جنانه! لم يزل خالدٌ يجوب ويتجوّل في هيام واشتياق إلى هذا المطلب الموهوم، ويتكهّن بتفسيرِ أدنى حدثٍ يجري حوله بهذه النفسية الغريبة، إلى أن أدركه رجل من أهل الهند؛ ثم لم يلبث الهنديّ حتّى أحسّ بما يخامره، فأوعز إليه أن يرافقه إلى مَنْ سوف تتحقق على يده أمالُهُ في عاصمة الهند .

نقتطف الآنَ مقاطعَ من قصّة دخوله في هذه المغامرة؛ فيقول وهو في المدينة المنوّرة يتأهّب للحج :

 »وكنتُ أفتّش على أحد من الصالحين لأتبرّك ببعض نصائحه لعلّي أعمل بها كل حينٍ، فلقيتُ شيخًا يمنيًّا متريضًا عالمًا عاملاً صاحب استقامة وارتضاء، فاستنصحتُهُ استنصاح الجاهل المقصّر من العالم المتبصّر فنصحني بأمورٍ منها: لا تبادر في مكة بالإنكار على ما ترى ظاهره يخالف الشريعة. فلما وصلت إلى الحرم وأنا مصرٌّ على العمل بتلك النصيحة البديعة بكرت يوم الجمعة إلى الحرم، لأكون كمن قرَّبَ بدنة من النعم فجلست إلى الكعبة الشريفة لأقرأ الدلائل، إذ رأيت رجلاً ذا لحية سوداء عليه زي العوامّ قد أسند ظهره إلى الشاذروان ووجهه إلىّ من غير حائل فحدَّثَتْنِي نفسي أنّ هذا الرجل لا يتأدّب مع الكعبة ولم أظهر عيبه فقال لي: أما عرفت أن حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة! فلماذا تعترض على استدباري الكعبة وتوجّهي إليك؟ أما سمعت نصيحة من في المدينة وتأكيده عليك؟! فلم أشك أنه من أكابر الأولياء وقد تستر بأمثال هذه الأطوار عن الخلق، فانكببت على يديه وسألته العفو، وأن يرشدني بدلالته إلى الحق فقال لي: فتوحك لا يكون في هذه الديار. وأشار إلى الديار الهندية، وقال: تأتيك إشارة من هناك فيكون فتوحك في تلك الأقطار. فأيست من تحصيل شيخ في الحرمين يرشدني إلى المرام، ورجعت بعد قضاء النسك إلى الشام «.[2]

يستطرد المترجم قائلاً :

 »وكان متشوّقًا بعد رجوعه من الشام إلى مرشدٍ من فحول الرجال حتّى جاء إلى السليمانية رجلٌ هنديّ يسمى مِرْزَا رحيم الله بِكْ المعروف بمحمد درويش العظيم آبادي.[3] أحد خلفاء الشيخ الدهلويّ، فاجتمع به وعرض عليه مطلبه. فقال لـه: »إنّ لي شيخًا كاملاً مرشدًا عالمًا عارفًا بمنازل السائرين إلى ملك الملوك، خبيرًا بدقائق الإرشاد والسلوك، نقشبنديّ الطريقة، محمديّ الأخلاق، علماً في علم الحقيقة. فَسِرْ معي حتّى نرحل إلى خدمته في جِهَانْ آبَادْ، وقد سمعتُ منه إشارةً بوصول مثلك ثم إلى المراد«.[4] 

مكث خالدٌ البغداديّ في مدينة جهان آباد (دلهي) مدة عام كامل. عدا ما أمضى من الوقت في السفر ذهاباً وإياباً. لأنّه بدأ رحلته عام 1224 من الهجرة وعاد سنة 1226هـ .

اشتهر خالدٌ البغداديّ بعد عودته من الهند بصورة غير معهودة، وذهب صيته إلى أقصى بقاع المملكة العثمانيّة مما أثار الشكوكَ حوله في نفس الخليفة العثمانيّ السلطان محمود الثاني بالذات وفي أوساط حكومته. لأنّ أتباعَ خالدٍ البغداديّ كانوا يسعون بحماسة شديدة لنشر طريقتهم في جميع أنحاء المملكة، وكانت لهم نشاطات كثيفة حتّى في مدينة إسطنبول عاصمة الدولة.

فقد ورد على لسان أحد المؤرّخين العثمانيّين ما قد عرّبه عباس العزّاويّ كما يلي :

»منذ خمسة أشهر مضت، ورد إلى إسطنبول بعضُ خلفاءِ الشيخ خالد المتوطّن في الشام، وهو من علماء السليمانية، وانتشروا في مساجد إسطنبول وجوامعها، وبثّوا الدعوةَ إلى طريقتهم، فانتسب إليها جماعةٌ من أكابر إسطنبول وعلمائها، ونالوا شهرةً في بلاد العربِ والتُّرْكِ، وصاروا يسمّون دعاتهم (الخلفاء)؛ فأذاعوا هذه الطريقة، وسعوا سعيًا حثيثًا في ترويجها وكسب المريدين لها.

وعلى هذا نُفي من إسطنبول مشاهيُر الطريقة النقشبنديّة وأعوانُهم في 21 من شهر رمضان سنة 1234هـ . 1817م ليلاً . وجيء بهم إلى الميناء، وأُركِبوا في زورق إلى (قارتال)[5] ومنها إلى سيواس[6] فأحلّوهم فيها. وفي اليوم التالي نُفِيَ من مشاهيرهم علي أفندي أُرْكُبِي من علماء إسطنبول إلى (جَرْكَشْ) داخل مدينة أنقره. وصالح أفندي، وأحمد أفندي إلى (سيواس). ثم أُرْسِلَ خليفةُ الشيخ خالد وأَعْوَانُهُ إلى أنحاء السليمانية على أن لا يعودوا إلى إسطنبول«.[7] فأدّى هذا التطوّر إلى إصدار الأوامر بالبحث والتحقيق مع خالد البغداديّ، رئيس الطائفة. وذلك بإيعاز من أحد رجال الدولة يُدْعَى حَالَتْ أفندي.[8] فقام بهذه المهمّة داود باشا والي بغداد. إلاّ أنّه أعرب في التقرير الّذي أعدّه؛ »أنّ خالدًا لا قصد لـه إلاّ إحياء السـنّة السنية، وأنّه مشغول بإرشاد مريديه، غير ساع بذلك إلى تحقيق أيّ مصلحة لـه. وأنّه بعيد كلّ البُعد عن الشؤون السياسية«. وتعهّد الوالي داود باشا في نهاية التقرير »أنّ خالدًا لن يتدخّل في أيِّ شئٍ من شؤون الدولة أبدًا«.[9]

اطمأنتْ السلطةُ لا شك بعد هذا التحقيق الّذي أثبتَ ولاءَ خالدٍ للخليفة. إذ أنّ الموقع الجغرافيَّ الّذي اتخذته الفرقة الخالدية مركزًا لها يومئذ - وهو بلاد الشام والعراق - كان على تخوم منطقة الوهّابيّين، خاصّة و أنّ هذا الموقع كان بمنـزلة الدرع لمنطقة آناضول التركية ضد انتشار عقيدة التوحيد بدافع نشاطات النقشبنديّين على امتداد هذه الساحات الشاسعة .

 



7- راجع ترجمته بالتفصيل في كتاب "علماء دمشق وأعيانها في قرن الثالث عشر الهجري للمؤلّفَين: محمّد مطيع الحافظ ونزار أباظه، الجزء الأول ص/ 298- 335 . دار الفكر- دمشق . وبهامشه (ص/298) قائمة بالمصادر الّتي تناولت حياة صاحب الترجمة. كذلك راجع مجلة المجمع العلمي الكرديّ، العدد الأوّل . بغداد-1973م. ص/ 697-727.

8- المصدر السابق، ص/ 299-300

9- هذه القصَّةَ نقلها عدةُ رجالٍ من النقشبنديّين الّذين تصدّوا لترجمة خالد البغداديّ، منهم قسيم الكُفْرَويّ في تركيا. سجل هذه الحكاية في الصفحة الثالثة بعد المائة من كتابه: Nakşibendiliğin Kuruluşu ve Yayılışı.حصل المؤلّف بهذا الكتاب على شهادة الدكتوراه من جامعة إسطنبول-كلية الآداب عام 1949م. وهذا الكتاب المدوَّن باللّغة التركية، أعدّه المؤلّفُ على الآلة الكاتبة. وهي نسخة واحدة لا ثانية لها حتّى الآن، مودعة في خزانة معهد التركيات بمدينة إسطنبول، ومسجّلة تحت رقم/ 337 .

10- عبد المجيد بن محمّد بن محمّد الخانيّ، الحدائق الوردية في حقائق أجلاء النقشبنديّة ص/226.

11- منطقة وميناء داخلي في الناحية الشرقية من مدينة إسطنبول ومحطة هامّة بينها وبين مدينة يالوا.

12- سيواس (السبطية القديمة) مدينة عريقة في أواسط آناضول، ومحطة هامة بين شرق البلاد وغربها.

13- تاريخ لطفي 1/287. مكتبة السليمانية ، خزانة الحاج محمود أفندي رقم/4755.

14- حالت أفندي ( السيد محمود سعيد 1766-1823م ) كان رجلاً وجيهًا عالمًا بارزًا بين رجال الدولة العثمانيّة في عهد السلطان محمود الثاني . تولىَّ مناصب هامّةً وأقام سفيرًا في العاصمة الفرنسية (1802-1806م.) على الرغم من أنه لم يتعلّم اللّغة الفرنسية. شخصيتُهُ جديرةٌ بالإهتمام. لأنّه كان حريصًا مغامرًا خطيرً لم يستعظم أيّ عقبةٍ على طريقه في التوصّل إلى مآربه. كان لـه تأثير في تنفيذ حكم الإعدام في كلٍّ من علي باشا وأبنائه المعروفين بأسرة (تبه دلنلي)؛ وكذلك في إعدام سليمان باشا والي بغداد، وإقالةِ صالح باشا، وثورة المورة. ثم في النهاية تم تنفيذ حكم الإعدام فيه أيضًا بتأثير مسيو صابستيان سفير الدولة الفرنسية في إسطنبول. فأمر به السلطان، فقُتل في مدبنة قونيا خنقًا.يَعُدّ النقشبنديّون هذا الحدثَ من كرامات الشيخ خالد البغداديّ، وتحقيقًا لدعائه على حالت أفندي الّذي كان قد سعي لدى السلطان محمود الثاني، وأشار عليه بأخذ الإحتياطات ضد خالد وبطانته.

[9] سليمان فائق، مرآت الزوراء ص/ 68.

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة