نص أدبي تصوفي

رقصة الوجد

 

سليم مطر ـ جنيف

(مقطع من رواية)

 

 

 

في المساء نجلس انا والشيخ (توما)، مفترشين الارض تحت سماء متلألئة بنجوم وبدر متوهج ونسيم صيف يحنو علينا. لا يسمع في الكون غير صوت شيخي وهو يرتل بآياته الآدمة، بينما سماء البادية تبدو من القرب حتى اني ارفع كفي لأداعب القمر والنجوم .

استغرب بأنه في صلواته ليس دائم الخشوع والوقار. يبتسم ويمزح ويغتاض وهو يناجي السماء. عندما ابدي له اندهاشي ، يضحك ويقول :

ـ  إسمع يا ولدي، خطأ الناس انهم يتصورون الله مثل ملك، يمكننا ان نخفي عنه خواطرنا ونزواتنا من خلال وجه رياء ومذلة وخشوع زائف . إعرف ان الله يدرك دواخلك أكثر منك لأنك جزءا منه. هو فيك حتى إن كنت لا تؤمن به. لنكن حقيقيين معه لأنه الوحيد الذي يدرك مباذلنا ويحتمل نزواتنا، ما دام هو الذي خلقنا ونحن منه وعلى صورته. لنعامل الله مثل أب وليس مثل ملك.. الا تمزح مع ابيك .. كن صادقا صريحا واثقا من نفسك أمام الله ولا تخشى أي شيء، إلا ضميرك ...

صوته الدافئ يصدح بصمت البادية ويتصاعد الى اعالي السماء وتتمايل النجوم مع كلماته كأنها في بحر متموج.. اشاهد الشمس الغاربة فأتذكر مشهد غروبها عند شواطء بحيرة جنيف . تطوف بي الذكريات في عوالم عتيقة ترتسم على وجه الفضاء. أرى أمامي وجه زوجتي (مارلين) وهي تعاتبني على غيابي وانقطاع اخباري. تشتعل في وجداني نيران الحنين اليها والى مدينة شبابي وذكريات أعوامي الطويلة. من دون انتباه ينطلق صوتي بموال بدائي مزيج من كل ما تعلمته من مواويل عراقية ومشرقية، وبكلمات مرتجلة من دون حساب، اردد بحسرة :

ـ اريد أن أفقد يا شيخي .. فأنا مشتاق وعندي لوعة.. لكن من مثلي لا يذاع له في الشوق سر.. أرجوك انجدني . ألا من خمرة تعبث بروحي أو نبتة تدوخ رأسي ؟

انطلق (توما) بضحكة رقراقة وقال :

ـ اسمع يا آدم ..الخمرة والحشيشة لا تخلق الثمالة بل تسرع بها، لأن الثمالة تكمن في روحك، وأنت وحدك من يجعلها تنبعث وتسري في البدن. المسكرات تضعف القدرة على الثمالة والفقدان الحقيقية الكامنة في الإنسان، اشبه بمن يعتمد بتنقله على مركبة وينسى السير على قدميه فتضمر وتنتهي .

الخمور تسكر البدن، أما الروح فلا يسكرها غير الجمال.. نعم الجمال مهما كان نوعه أو تعبيره: الغناء والرقص والضحك والأدب والفن والرياضة ومعاشرة الأحبة.. الا ترى كيف ان اللذين يتناولون المسكرات وأرواحهم مليئة بالوساوس والأحزان لا يجدون المتعة والفرح بل يزيدون اوجاعهم على اوجاع، حتى ينحدروا الى الإدمان وتدمير الذات..  

بعد هنيهة صمت تغيب خلالها نظراته في القمر، ينهض وهو يقول :

ـ تعال يا ولدي، إذا رغبت الثمالة والتحليق أنت وبدنك في فضاءات الفقدان فأني معك وعندي لك طريقة تفوق بتأثيرها الخمرة والحشيشة .. قم .. اجلب بعض الحطب واعلق لنا ناراً، وسأدلك على طريق الوجد..

ينهض الى الصومعة ثم يعود بدف كبير. يطلب مني ان اتوأمه بالحركات والدوران حول النار. ان انسى أي قاعدة او منطق تعلمته. فقط أن أترك حركات جسمي تنسجم مع كل ما احسه بداخلي أو بخارجي . أنسى العقل واترك بدني حرا في التناغم مع روحي . اتخيل بأني ورقة في شجرة الوجود أو موجة في بحر الكون .

 يشرع بضربات متقطعة بطيئة وهو يدور حول النار متمايلا بظهره ورأسه يمينا وشمالاً. يطلق اصواتا متصاعدة متداخلة مع قرع الدف. أما أنا فأجهد في البدء ان انسجم مع قرع الدف وهي تشتد وتسرع.  بعد قليل نأخذ سوية ومن دون أي اتفاق بإصدار نفس الاصوات والهمهمات وعبارة : الله حي .. الله حي .. حي .. حي .. حي ...

ابدأ بالإنسجام مع بدني الذي راح يتلوى ويتسامى بطيئا نحو الأعالي. اباغت برؤية كائنات آدمة تقترب منا. اتوقف مرتعبا اتمعن بالذئاب تشرع بتشكيل دائرة وهي تحوم حولنا وتلعق الهواء كأنها تشاركنا الرقص. لكن يد (توما) تسحبني من دون كلام. أعود وعيناي رغماً عني تتفحص بحذر الذئاب المحيطة .

مع تصاعد قرع الدف الممتزج بصرخاتنا تبدأ الذئاب حولنا تدور وهي تطلق عواءاً آدماً مفعم بنشوة وحشية. لم أعد أحس بالخوف كأني بالحركات الراقصة أقوم بطرد الخلايا الشريرة والخؤونة من قلعة بدني . ضربات دف وصرخات شيخي وعواء ذئاب كلها تصدح في دواخلي . انطلق في عوالم من فقدان ووجد لم ابلغها سابقا في أشد حالات ثمالتي ..

 

 

أصرخ بكل ما في روحي من حرية وانعتاق. اضحك تارة وأبكي تارة اخرى . اصواتنا تعلو وتندمج مع صمت كون وعواء ذئاب وطقطقة نيران وفحيح ريح وعبق براري ، لتنشد كلها بنفس الروح والمعنى :

ـ الله حي .. الله حي .. الله حي .. حي .. حي ..

أغمض عينيّ وافتحهما كما أشاء حتى يلتغى الفرق بين رؤى الوجود ورؤى دواخلي . تمتزج الأشياء وتنعدم حدود الزمان والمكان: عيون الذئاب تتلألأ في السماء..  وجه شيخي يسطع في روحي .. نيران تلتهب ونجوم تقدح وريح براري تعوي ، حتى يستحيل الكون كله الى كينونة واحدة تـنطق بكلمة الكلمات وحاوية سر الأبدية : حي .. حي .. حي ...

   أجهل كم من الحيوات بدأت الإستيقاظ في كياني . كل خلية مني تحمل في داخلها ميراث كائن ما من أسلافي . بدني قبيلة بدائية يصيبها مس من جنون فتنطلق معربدة بطقوس وحشية منفلتة من كل عرف وقانون . أتلوى وأرتعش بحركات منسية ورثتها من أسلافي : دبك ولطم وبزخ وهوسات وتمرغ في الارض .. حتى ابلغ ذلك الوجد الذي تتفكك فيه مكونات الجسد وتصير أثيرية كالروح .

أجد نفسي أتبع شيخي لتطأ اقدامي الحافية جمرات النار.. لا أحس بأي وجع بل بتيارات من برق تخترق أقدامي وتتكور طاقة نور في كياني وتحملني الى سماء وقمر ونجوم لتعانقها وتذوب في عالم فقدان تتألق فيه ألوان وألوان تحيط بكيانات وهاجة تتراقص جماعات جماعات وهي تصدح بتراتيل محبة ونشوة وخلود: حي .. حي .. حي ...

 

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة