اخوان الصفا

 

محمود الزيباوي

 

 

وهي فرقة فكرية عُرفت باسم "إخوان الصفاء وخلاّن الوفاء"، اشتهرت بتصنيفها مجموعة من الرسائل في مختلف فروع الفلسفة والعلوم الإنسانية. وقد عرفت هذه الرسائل رواجا كبيرا في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، كما يظهر من خلال العدد الكبير الذي وصلنا من نسخها المخطوطة، ومنها نسخة أُنجزت في بغداد عام 686 هـ، تزيّنها منمنمتان بديعتان تختصران جمالية فن التصوير العباسي الخاصة بفن الكتاب.
اختلفت الآراء في تحديد مذهب هذه الجماعة ودورها في الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية، والثابت أن اسم الجماعة خرج إلى النور في القرن العاشر الميلادي حيث "اضطربت أحوال الخلافة، ولم يبق لها رونق ولا وزارة، وتملّك البويهيون، وصارت الوزارة من جهتهم والأعمال إليهم"، على ما كتب ابن الطقطقي في "الفخري في الآداب السلطانية". وكان البويهيون من الشيعة الذين اتبعوا مذهب الزيدية، وهي من أقرب الفرق إلى آراء مذهب السنّة، ذلك أنها لا تحصر الإمامة في سلالة الإمام الحسين بن علي (ع)، كما أنها لا تشارك غيرها من الفرق الشيعية في ذم الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان (رض)، والقدح في الصحابة الذين لم يبايعوا الإمام علي بالخلافة بعد وفاة الرسول (ص) .
الأعوان على الخير
يجزم الكثير من البحاثة بتشيّع إخوان الصفاء، إلا أنهم يختلفون في تحديد الفرقة التي ينتمون إليها، فمنهم من يحسبونهم من الإسماعيليين، ومنهم من يرجّح انتماءهم إلى الإثني عشرية، ومنهم من يربط بين مذهبهم ومذهب الزيدية. ونجد في الرسائل مسحة شيعية عامة تتجلّى في كثير من معانيها، إلا أن الفكر الذي تحمله هذه الرسائل يتخطى حدود المذاهب الشيعية المتعددة، كما أنه يخرج على حدود الفرق الإسلامية المعروفة. فهو فكر انتقائي يجمع بين الكثير من المعتقدات الدينية والمذاهب الفكرية، ويبتغي أصحابه جمع حكمة كل الأمم والأديان. مذهبهم بحسب تعبيرهم "يستغرق المذاهب كلها، ويجمع العلوم جميعها، وذلك أنه النظر في جميع الموجودات بأسرها، الحسية والعقلية، من أولها إلى آخرها، ظاهرها وباطنها، جليها وخفيها، بعين الحقيقة، من حيث هي كلها مبدأ واحد، وعلة واحدة، وعالم واحد" (الرسالة45). وتبرز هذه النظرة الانتقائية التوفيقية بشكل خاص في تحديد الإخوان لمزايا الإنسان الكامل، وقد وجدوه في "العالم الخبير الفاضل، الذكي المستبصر، الفارسي النسبة، العربي الدين، الحنفي المذهب، العراقي الآداب، العبراني المخبر، المسيحي المنهج، الشامي النسك، اليوناني العلوم، الهندي البصيرة، الصوفي السيرة" (الرسالة 22) .
لا نعرف الكثير عن مؤسسي هذه الجماعة التي استمدت اسمها على الأرجح من تعبير لابن المقفع في "كليلة ودمنة"، حيث يتوجه دبشليم الملك بالكلام لبيدبا الفيلسوف في مطلع قصة "الحمامة المطوقة" ويقول له: "حدثني، إن رأيت، عن إخوان الصفاء كيف يبدأ تواصلهم ويستمع بعضهم ببعض". ويجيب الفيلسوف: "إن العاقل لا يعدل بالإخوان شيئا، فالإخوان هم الأعوان على الخير كله، والمؤاسون عند ما ينوب من المكروه". وقد احتار الباحثون القدامى في معرفة مصنّفي الرسائل الذين كتموا أسماءهم، مما فتح باب الاجتهاد أمام كل قوم في نسبة هذه الرسائل "بطريق الحدس والتخمين"، على ما لاحظ جمال الدين القفطي (646 هـ) في "أخبار العلماء بأخبار الحكماء". ويقدم أبو حيان التوحيدي شهادة بالغة الأهمية في هذا الموضوع، ذلك أنه يكشف عن أسماء خمسة من مؤلفي هذه الرسائل في كتابه "الإمتاع والمؤانسة". كما هو معروف، يضم هذا الكتاب مسامرات سبع وثلاثين ليلة أمضاها التوحيدي في منادمة الوزير أبي عبد الله العارض. ويأتي ذكر إخوان الصفا في الليلة السابعة عشرة حيث يسأل الوزير عن زيد بن رفاعة وعن مذهبه، ويجيب الكاتب: "هناك ذكاءٌ غالبٌ، وذهنٌ وقادٌ، ويقظةٌ حاضرة، وسوانح متناصرة، ومتسعٌ في فنون النظم والنثر، مع الكتابة البارعة في الحساب والبلاغة، وحفظ أيام الناس، وسماعٍ للمقالات، وتبصرٍ في الآراء والديانات، وتصرفٍ في كل فنٍ: إما بالشدو الموهم، وإما بالتبصر المفهم، وإما بالتناهي المفحم. فقال: فعلى هذا ما مذهبه؟ قلت: لا ينسب إلى شيء، ولا يعرف برهط، لجيشانه بكل شيء، وغليانه في كل باب. ولاختلاف ما يبدو من بسطة تبيانه، وسطوته بلسانه، وقد أقام بالبصرة زماناً طويلاً، وصادف بها جماعةً لأصناف العلم وأنواع الصناعة؛ منهم أبو سليمان محمد بن معشر البيستي، ويعرف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني والعوفي وغيرهم، فصحبهم وخدمهم؛ وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة، وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهباً زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله والمصير إلى جنته، وذلك أنهم قالوا: الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات؛ ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفلة، وذلك لأنها حاويةٌ للحكمة الاعتقادية، والمصلحة الاجتهادية".
أكد البيهقي (568 هـ) في "تتمة صوان الحكمة" كلام التوحيدي في نسبة الرسائل إلى المؤلفين الخمسة، واستعاد القفطي ( 646 هـ )أسماء هؤلاء الحكماء. وأورد شمس الدين الشهرزوري (684 هـ) في كتابه "نزهة الأرواح وروضة الأفراح" قائمة مشابهة من المؤلفين، وحذا حذوه غريغوريوس الملطي المعروف بابن العبري (685 هـ) عند حديثه عن إخوان الصفاء في كتابه "تاريخ مختصر الدول". من جهة أخرى، نجد في المصادر الإسماعيلية تبنياً لهذه الرسائل. ففي كتاب "عيون الأخبار"، ينسب الداعي اليمني إدريس عماد الدين (838 هـ) رسائل إخوان الصفاء إلى "الإمام التقي أحمد بن عبد الله بن إسماعيل"، ويتبنّى هذا الرأي الداعي شرف الدين جعفر بن محمد بن حمزة في "الرسالة الموقظة"، بينما ينسب ابن حيون المغربي التميمي رسائل الإخوان إلى "الحرم الأربعة: عبد الله بن حمدان، وعبد الله بن سعيد، وعبد الله بن ميمون، وعبد الله بن مبارك". إلا أن هذه المصادر التي اعتمدها البعض لإثبات هوية الإخوان الإسماعيلية ليست معاصرة لهذه الجماعة، فهي تعود إلى العصر الفاطمي وما بعده بقرون، بينما تحفل الرسائل بكتابات تتناول أحداث من القرن الرابع الهجري.
الخلود في النعيم
تحتفظ مكتبة السليمانية في إسطنبول بنسخة مخطوطة من "رسائل إخوان الصفاء" أُنجزت عام 686 هـ في بغداد، تزينها منمنمتان تتصدّران صفحات الكتاب. تحتل المنمنمة الأولى ظهر الورقة الثالثة وتعلوها كتابة من ثلاثة أسطر تقول: "نقل من تتمة صوان الحكمة لظهير الدين أبي القسم البيهقي أن خمسة من الحكماء اجتمعوا وصنّفوا رسايل اخوان الصفا وهم ابو سليمان محمد بن مسعد البستي ويُعرف بالمقدسي وأبو الحسن علي بن زهرون الزنجاني وأبو أحمد النهرجوري والعوفيّ وزيد بن رفاعة وألفاظ الكتاب للقدسي". في المقابل، تحتل المنمنمة الثانية وجه الورقة الرابعة ويكلّلها بخط عريض عنوان الكتاب: "رسايل اخوان الصفا وخلاّن الوفا". صوِّرت هاتان المنمنمتان بعد مرور زهاء ثلاثة عقود على سقوط بغداد والخلافة العباسية، إلا أننا لا نجد فيهما أي أثر للمؤثرات الآسيوية التي ظهرت في فن الكتاب في تلك المرحلة. يختصر هذا العمل التشكيلي المؤلف من لوحتين مدرسة بلاد الرافدين في فن التصوير، برهافة قلّ نظيرها. يحضر الحكماء إلى جانب تلامذتهم وخدمهم في دار تتألّف من طبقتين، وفقا لنموذج إيقونوغرافي متداول نجده في بعض من أشهر المنمنمات العباسية، كما في تصوير الواسطي للمقامة الدمشقية في نسخة من نسخ "مقامات الحريري" المحفوظة في المكتبة الوطنية الفرنسية. يتوزّع المؤلفون الخمسة على الطبقة الأرضية وسط أربعة من الخدم، بينما يحتل الطبقة العليا أربعة من المريدين توزّعوا بشكل متساو على صفحتي المخطوط. تفوق مقاييس الشخصيات الرئيسية من يحيطها في الحجم، مما يقوّي حضورها في هذا التأليف التشكيلي المسبك. وفقا للتقليد السائد في مدرسة الرافدين، تكلل رؤوس الحكماء هالات دائرية شبيهة بتلك التي ترمز إلى القداسة في الفنون المسيحية، إلا أن هذه الهالات تخلو من هذه الدلالة في القاموس العباسي، حيث تحضر كعنصر شكلاني صرف لا يحمل أي رمزية خاصة.
يحضر اللون الأزرق بقوة ويطغى على الألوان الأخرى. خيوط الذهب التي تلفّ عناصر هذا التأليف تلقي ببريقها على هذا العمل الفذ وتهبه بعدا أثيريا ملكيا. الوجوه في غالبيتها نصف جانبية تتحاور وتتلاقى بصمت. ثمّة من يقرأ، وثمّة من يدوّن وثمّة من يتسامر ويتناقش مع الآخر. هم أخوان الصفا وخلان الوفا، يدعوننا إلى الدخول إلى مدينتهم، تلك التي يكون أساسها على تقوى الله، ويكون بناؤها على "الصدق في الأقاويل، والتصديق في الضمائر، وتتم أركانها على الوفاء والأمانة، كيما تدوم، ويكون كمالها على الغرض في الغاية القصوى التي هي الخلود في النعيم" (الرسالة 48) .

 

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة