يهود العراق


 نادر ساسون خضر ـ لندن

 

النبي العزير في جنوب العراق

 

الديانة اليهودية، بصورة ما، تعتبر ديانة عراقية أولاً، ثم فلسطينية ثانياً. والسبب، لأن التأسيس الفعلي لهذه الديانة تم في (بابل) وان (التوراة ، الكتاب المقدس) اليهودي، قد كتبه فعليا اليهود المقيمون في بابل، حيث استلهموا اولا تراثهم الشفهي الفلسطيني الذي جلبوه معهم من فلسطين، ومزجوه مع تراث الديانة العراقية (البابلية) وأساطيرها المعروفة، مثل اسطورة الطوفان وقصة موسى، وآدام وحواء. اما كتابهم التشريعي (القانوني) في (التلمود البابلي) الذي كتبوه ايضا في بابل مستلهمين الثقافة القانونية العراقية ومن اهمها (شريعة حمورابي).

في بابل ظهر نبيهم حزقيال المعروف بـ (ذي الكفل) ويزور قبره المسلمون واليهود في المدينة المسماة باسمه الى اليوم في الجنوب. وفي العراق كذلك، جمع (عزرا) اسفار التوراة، ومات في العراق، وقبره في مدينة (العزير) في  الجنوب، يرعاه المسلمون واليهود معا. كما ان (التلمود البابلي) يعتبر الاكثر صحة من التلمود المقدسي، وكان جزء من جهود المدارس اليهودية التي أسست في جنوب العراق منذ القرن الثاني للميلاد. كما أسست معابد وبنيت مراقد يهودية كحال قبر (النبي ناحوم) في قرية (القوش) المجاورة للموصل أو (يوشع) الكاهن في الكرخ.

تاريخ يهود العراق
تعتبر الطائفة اليهودية في العراق من أقدم الطوائف اليهودية في العالم، إذ يرجع أصلها الى القرن السادس قبل الميلادي، من الاسرى الذين جلبهم (نبوخذ نصر) من فلسطين بعد سقوط دويلاتهم. وقد اتت بعد ذلك هجرات يهودية مستمرة من فلسطين الى العراق.

قام كورش الفارسي للعراق بالقضاء على دولة (بابل) سنة 538 ق.م التي كانت آخر دولة عراقية، وكانت بقيادة السلالة الكلدانية، و يعتقد بأن لتعاون اليهود مع كورش في فتح بابل من جهة وتحريض زوجته اليهودية الجميلة من جهة ثانية ورغبته في مد رقعة الدولة الفارسية وتكوين امبراطورية مترامية الأطراف من جهة ثالثة أثراً كبيراً في سماح كورش لليهود بالسكن في فلسطين لمن أراد منهم ذلك. هكذا جاءت القافلة الأولى برئاسة (زر بابل) مؤلفة من 42360 شخصاً و 7337 عبداً و تبعهم بعد ذلك جمع غفير. إلا أن العائدين لم يكونوا كل اليهود ، إذ فضل غالبيتهم العيش في العراق بعد ان تيسر لهم رغد العيش. وبذا يمكن القول بأن يهود العراق تألفوا من أسرى أولاً و مهاجرين طواعية ثانياً؟، ثم أخذ عددهم حتى بعد قدومهم لفلسطين في عهد كورش، يزداد مع مرور الزمن و مما ساعد على ذلك ما كانوا يتعرضون له من اضطهاد في فلسطين على يد أباطرة الرومان فكانت بيئة العراق بمثابة متنفس لهم يفدون اليها من وقت لآخر فراراً من ظلم الرومان و طمعاً في حماية الفرس وهكذا تكونت جاليتهم وأصبح لهم كيان في العراق.

 

بابل، حيث استوطن اليهود وابدعوا توراتهم وتلمودهم..

 

في العصر الاسلامي
لقد اعتبر الاسلام (اليهودية) ديانة توحيدية نبيها موسى المرسل إلى بني إسرائيل، والذي تكلم إليه الله في طور سيناء، حيث أوحى له التوراة التي حرفها اليهود في وقت لاحق. لذلك لقي اليهود في عهد الدولة العربية الإسلامية كل اهتمام و تقدير وعوملوا معاملة جيدة بل أن بعضهم ارتقى مناصب مرموقة في عهد الدولة العباسية. وصار رأس الجالوت بفضل أهمية العراق رئيس الطائفة اليهودية في العالم أجمع واستفاد اليهود من جو التسامح والرعاية، فلمع منهم العديد من العلماء والأطباء والحرفيين والخازنين، ورجال المال، وكان منهم الطبيب فرات بن شحناتا وحسداي بن أسحق. وقد ازدهرت معابدهم في عهد الخليفة المعتضد خصوصاً أكاديمية سورا التلمودية، ولمع من الأحبار والعلماء سعديا بن يوسف المعروف بسعديا الغيومي وهارون بن يوسف وغيرهما.

 و قدر عدد اليهود في عهد الخليفة المستنجد العباسي عند زيارة الرحالة اليهودي بنيامين القطيلي لبغداد سنة 566 هـ - 1170 بأربعين ألفاً في بغداد وحدها يعيشون بأمان وعز ورفاهية ،و كسبوا مركزاً مالياً ممتازاً وكانوا يتمتعون بالحرية الاقصادية وحرية الدين فكانت لهم مدارسهم و كنسهم و لقي حاخامهم الأكبر كل تعظيم واحترام. لذا يمكن القول بأنهم تمكنوا في العهد الإسلامي في اكتساب ثقة الخلفاء والقادة العرب ونالوا حقوقهم المدنية والدينية ومارسوها بحرية مطلقة .

و لما زالت دولة بني العباس على يد المغول ذاق اليهود كما ذاق كل العراقيين الأمرين على يد الغزاة المغول. استمرت أحوال اليهود وغيرهم من العراقيين تسوء تحت ظل المغول. كذلك في زمن الاحتلال الفارسي ، إذ واجه اليهود اضطهادات، حتى انتهت سيطرتهم على العراق عام 1638 حين جاء الاتراك ، وبدأت اوضاع اليهود العراقيين تسير في طريقها الى الافضل. وقد اعتبر اليهود دخول السلطان التركي الى بغداد " يوم معجزة " ، واستطاعوا خلال فترة الحكم العثماني ( 1638 - 1917 ) أن يمارسوا امور حياتهم بحرية تامة ، واتسعت الطائفة وتعاظمت وعاش افرادها جنباً الى جنب مع مسلمي العراق الذين كانوا يرون انفسهم مسؤولين عن حماية جيرانهم وأصدقائهم من اليهود.
برزت مكانة اليهود خلال الفترة الاخيرة من الحكم العثماني - في مجال التجارة والاعمال، وكان رئيس صيارفة الوالي المعروف باسم " صراف باشا " يهودياً ، واشتهر من بين هؤلاء الصيارفة ساسون بن صالح بن داود الذي تقلد هذه الوظيفة اعواما طويلة. قدر الرحالة (بدرو) تكسرا في زيارته للعراق سنة 1604 – 1605 عدد اليهود تقديراً مبالغاً به حين قال بأنه يتراوح بين 20 – 30 ألف بيت. و قدر عدد الأسر اليهودية في بغداد مطلع القرن التاسع عشر بنحو ( 2500 ) أسرة يهودية، و صار اليهود ممثلين في مجلس المبعوثان بعد إصدار الدستور العثماني سنة 1876 م.
وقد انتشر يهود العراق في المدن والقرى العراقية ولا سيما بغداد والموصل والبصرة وكركوك ، وكانوا يقومون بالاعمال الاقتصادية المختلفة، وكانت لهم علاقات تجارية وثيقة بالهند وايران. وازدهر هذا الدور إثر افتتاح قناة السويس في مصر عام 1868 ، وتعاظم دورهم في اعقاب الاحتلال البريطاني للعراق بعد الحرب العالمية الاولى عام 1919.

وقد ترك كثير من يهود بغداد منذ القرن الثامن عشر موطنهم واتجهوا إلى الشرق الأقصى من أجل التجارة وتوزعوا في كالكوتا وبومباي ورانجون وسنغافورة وهونج كونج. ونال بعضهم جنسيات أجنبية إنجليزية وفرنسية وقدموا خدمات كبرى للدولتين كما عمل غيرهم كوزراء لدى أفراد المغول في الهند. وقد شكل يهود بغداد في الهند طبقة مترفعة عن يهود الهند الذين يسمون بني اسرائيل ويعدون من الملونين بينما كان يهود بغداد يعتبرون انفسهم مساوين للحكام البيض (الاوربيين) في الهند .

وقد بقيت هذه الطوائف تعتبر الطائفة اليهودية في بغداد المركز الروحي والديني رغم أن عدد أفرادها أصبحوا مستقلين سياسياً واقتصادياً وقد ساعدتهم ثروتهم التي جمعوها على إعانة يهود العراق وغيرهم من يهود الشرق بإنشاء المدارس والمؤسسات الخيرية والمعابد.
وتولى العديد من يهود العراق رئاسة المصالح الاقتصادية والمكاتب الحكومية ، وكان لهم بنوك عديدة منها بنك زلخة وبنك كريديه وبنك إدوارد عبودي وغيرها ، كما احتكروا عدة صناعات كالابسطة والاثاث والاحذية والاخشاب والادوية والاقمشة والتبغ والجلود وغيرها واحتكروا استيراد بعض السلع مثل منتجات شركة "موبيل أويل " الامريكية ، كما عملوا في معظم المهن الحرة كالطب والصيدلة والصحافة والطباعة.
وبلغت مساهمة يهود العراق في الحركة الاقتصادية اوجها قبيل الحرب العالمية الثانية، إذ كان اكثر من نصف الاعضاء الثمانية عشر بغرفة تجارة بغداد من اليهود وكان من بينهم الرئيس والسكرتير.
في عام 1948 اجبر عشرات الآف من اليهود على مغادرة منازلهم وتمت مصادرة اموالهم الغير منقولة التي وضعت تحت اشراف دائرة الاموال اليهودية.
وفي 9/3/1950 صادق البرلمان العراقي على قانون يقضي بالسماح لكل يهود العراق بالهجرة - ان ارادوا - بشرط التنازل عن الجنسية العراقية وعن كافة ممتلكاتهم.
وفي عيد الفصح اليهودي عام 1950 كان الخروج من العراق والذي حمل اسم عملية " عزروا ونحميا " ولم يبق من اليهود سوى خمسة الآف فقط من بين 120 الفاً تقريباً. او ما يقارب 600 اسرة يهودية. صدر عام 1952 القانون الذي  يسقط عنهم الجنسية.

 

الوصايا العشر بالخط الآرامي العراقي، من القرن الثالث .م

الديانة اليهودية

تعتبر عقيدة (العودة الى الارض الموعودة) حجر الزاوية في الديانة اليهودية. فبما ان هذه الديانة بالاساس تبلورت بصورة واضحة بين اليهود المنفيين في بابل، فأنها قدست فكرة (المنفى) والعودة الى الارض الموعدة. "إرص يسرائيل"، أي (أرض فلسطين)، هي "أرض الرب"، التي تفوق في قدسيتها أي أرض أخرى. وهي الأرض التي سيعلن منها (المسيح المخلص) بداية العصر الألفي آخر الزمان، وهي التي تحرم الشريعة اليهودية العودة إليها قبل مقدم المسيح. وكل يهودي مؤمن، في كل مكان وزمان، يعتبر عودته الى تلك الارض(الموعودة!) من اهم الواجبات الدينية الملقاة على عاتقه. رغم ان العقيدة الحقيقية، تطالب بالعودة فقط بعد (ظهور المسيح المخلص)، وليس قبله. لكن الحركة الصهيونية نجحت بتغيير هذا المعنى وفرضت فكرة العودة منذ تكوين دولة اسرائيل.

اما بالنسبة لاسم (اليهودية)، فأنه امتزج بين المعنى الديني والمعنى الاقوامي.  ظهر مصطلح (اليهودية) للمرة الأولى في العصر الهيليني( القرن الثالث ق.م) تمييزا بين عقائد وممارسات اليهود، والعبادات الاخرى الموجودة في الشرق الأدنى. وأول من أشار إلى عقيدة اليهود باليهودية هو المؤرخ اليهودي المتأغرق يوسيفوس فلافيوس، وذلك بالمقارنة مع "الهيلينية": عقيدة أهل مقاطعة يهودا مقابل عقيدة سكان مقاطعة هيلاس. فالمصطلحان بدءا اسمين جغرافيين قبل أن يشيرا إلى النسقين العقائديين.

يرى الدارسون أن "اليهودية" كمصطلح لا يشير إلى النسق الديني للعبرانيين قبل تدوين العهد القديم أثناء الهجرة الأولى إلى بابل 578 ق.م.، أي بعد موسى بمئات السنين، واستمر التدوين حتى القرن الثاني قبل الميلاد، في وقت أصبحت فيه العبرية لغة ميتة لا تستخدم إلا في الطقوس الدينية، بينما أصبحت الآرامية لغة اليهود. لذا، قد يكون من الأفضل الحديث عن "عبادة يسرائيل" في المرحلة التي تسبق بناء الهيكل وتأسيس المملكة العبرانية المتحدة عام 1020 ق.م.، وعن "العبادة القربانية المركزية" بعد تأسيس الهيكل وحتى هدمه عام 70 ميلادية، واليهودية بشكل عام لما بعد ذلك.

نظرا لظهورها المبكر، ولتمثلها عناصر من الحضارات في فلكها، تتسم اليهودية بتجانس أقل مما هو في حالة الديانات التوحيدية الأخرى، خاصة بعد سقوط الهيكل، واختفاء أي مركز ديني أو زمني لليهودية (أو اليهود)، وأصبحت اليهودية تركيباً تراكمياً لطبقات عدة الواحدة فوق الأخرى. وبالمقارنة مع العقائد الأخرى، تتسم التقاليد الشفوية اليهودية بسلطة تجعلها "شريعة شفوية" تفوق "الشريعة المكتوبة"، أي التوراة، أهمية. وبالرغم من وجود ميراث توحيدي قوي في اليهودية، إلا أن الافكار العرفانية استمرت في الزيادة مع الزمن. كما أن تأثير الصهيونية كان من الكبر لدرجة خلطت عند الكثيرين بين الصهيونية واليهودية، بالرغم من أن الصهيونية قامت على يد الملحدين بالأساس، ولا يزال التيار الصهيوني الإثني العلماني يشكل أقوى التيارات في الحركة الصهيونية.

الكتب المقدسة والدينية:اولها كتاب (التوراة) وتعني(التراث)، وفيه مجموع حكاياتهم وتراثهم الشفاهي. يشير اليهود إلى الشريعة اليهودية بكلمة "التوراة"، بينما تعني "هالاخاه" (الالواح)القوانين أو التشريعات الخارجية تحديدا، وإن كانت دلالتها تمتد أحيانا لتشمل الشريعة ككل. ويفرق اليهود بين " الشريعة المكتوبة"، وهي الواردة في أسفار موسى الخمسة وباقي العهد القديم، والشريعة الشفوية، أي شروحات الحاخامات التي سجلت في التلمود وغيره من الكتب، مثل كتب القبالاه.

يليه (التلمود) وتعني (التلمذة)، ويحوي التلمود الشريعة الشفوية، وهو سجل للمناقشات التي دارت بين الحاخامات في الحلقات التلمودية عن القضايا الفقهية (هالاخاه)، والوعظية (آجاداه). وباعتباره سجلا للمناقشات كتب على مدى قرون، يحوي موضوعات تاريخية، وتشريعية، وزراعية، وأدبية، وعلمية... يختلف التلمود الفلسطيني عن التلمود البابلي في أن الجماراه في الأخير أكثر شمولا، بينما يتطابق نص الجماراه في الاثنين. تتعادل في اليهودية أهمية الشريعة المكتوبة (التوراة والأنبياء والكتب) مع أهمية الشريعة الشفوية (اجتهادات الحاخامات المجموعة في التلمود). كما ظهرت لاحقا كتابات القبالاه التي سيطرت لاحقا على الفكر الديني اليهودي.

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة