التسامح الديني في العقلية العراقية

 

د.علي ثويني/ السويد

thwanyali@hotmail.com

 

 

عيرني أحد الأخوة المغاربة بأننا العراقيون (خالوطه)، ويعني خليط غير هجين من الملل والنحل، تأكيدا لما يشيع اليوم عن التناحر الذي  أملته الفرقة بين الفرقاء والمتحاصصين.ولم يعي الرجل بأن وجود فسيفساء بشري في بقعة ما من أرض الله، يعني تراكما تاريخيا ملموسا،دون الحاجة لتأكيده في المدونات أوالحفريات . والأهم ما لايفهمه الرجل الحصيف، بأن الذات العراقية مسجاة على التسامح،حتى تداعى أمرها إلى فسيفساء وتلاوين برج بابل ، وضمت إلى صدرها الرحب الجميع دون تفريق أو تفريط.

نسمع أخبار مؤلمة عن سحق فئات الوطن الواقعين بين حجري رحة الأقوياء، ويشمل الأمر جموع المسيحيين والصابئة في جنوب العراق،واليزيدية والشبك والكاكئية في شماله،  فمثلا من ضمن الف عائلة صابئية في المجر الكبير، لم يبقى منهم غير ثلاثة، والأمر كذلك يتجسد في سوق الشيوخ الذي كان المندائيون يشكلون به مائه وخضرته ومبرر وجوده،والحال عينه ينطبق على مسيحيي سهل نينوى ومن مكث في شمال العراق منهم.

لقد أشاعت يد (القوى الدينية المتطرفة) في البصرة والعمارة فتكا بهؤلاء ،فعنفت أملاكهم وسرقت متاجرهم وأقفلت كنائسهم ومعابدهم ، مما دعاهم للهجرة عنها وترك تلك الأوابد كالحة وحيدة اللون، مجردة من  زهوألوانهم البهيج. وهاهم نصارانا وصابئتنا ويزيديونا وفئاتنا العزيزة ، يملئون الشتات والمنافي، بما يعني أن العراق سوف يفرغ من وجودهم إلى الأبد بما لم يحدث في تاريخه البته، والذي سيكون مثلبة وعيباً وندبة عار وتركة كالحة على كاهل أجيالنا القادمة.

ثمة مغالطة لغوية رامزة وغامزة، حينما نكني هؤلاء بـ (أقليات) ،والتي نتمنى نبذها في قادم الأيام،من ضمن آليات المواطنة التي تلغي تصاعدياً صفات الأكثرية والأقلية الدينية والعرقية الرائجة، والمتاجر بها في تنمر وتحد، مثلما رأينا إحصاءات جزافية ودعائية شتى. وإذ نحبذ أن ندعوا هؤلاء (فئات الوطن)، فهم بنا ومعنا ومنا يشكلون حالة أكثرية عراقية مطلقة.وفي الجانب العلمي الواقعي نعتبرهم  بقايا أهلنا القدامى،حينما كان أجدادنا أخوة فسلك كل منهم مسلكه الديني ثم اللغوي،بحسب مكان تواجده، مثلما هو ديدن البشر، ويحدث حتى اليوم، حينما يعتنق الاخوة الأشقاء أديان أو أفكار شتى بحسب الأهواء والإقتناع ،ويمكث في تلك الحيثيات علم الأنثروبولوجيا (الأجناس)  دليلنا وفيصلنا.  فلا يمكن إثبات نسب وصفاء جنس وأصول أي عراقي إطلاقا، فثمة الأشقر والأسمر والأصفر في الشمال والجنوب على حد سواء، وثمة أخوة في نفس البيت يختلفون شكلا فيما بينهم، وهو ما يدلل على الأصول المشتتة للنوع العراقي ،ويزيدنا فخرا ويكسبنا رفعة تصاعدية في التحسن الموروثي (الجيني)، الذي تسعى إليه أمم شتى اليوم .

ثمة منزلق وهاوية نحو الإحتراب العرقي والديني يتحكم بخيوطه ويروج له أعداء الأمة العراقية من داخلها أو خارجها .وقد أشار المرحوم هادي العلوي، في بداية التسعينات أن ثمة ورقة أخيرة سيلعبها البعثيون عندما تغرب أيامهم هي الورقة الطائفية،حينما كانت سلطة البعث تترنح بعد حرب الكويت والانتفاضة الشعبانية. وقد لمسنا منذ الأيام الأولى للتغيير الذي جاء به الأمريكان هجومات أستهدفت الكنائس حصرا قبل الجوامع ، والفاعل حتما هو المستفاد ، ويقتصر مدى تلك المصلحة في  جهات قومية ودينية وخارجية تروم العبث بمصائر أهل البيت العراقي .هؤلاء يبحثون عن مآربهم في إشاعة حالة من القلق ودوامة من ضياع النصاب الأمني، والحث على الهبوط النوعي الأخلاقي  للإنسان،الذي يعود تطبيقه برأينا الى  إنقلاب 8 شباط 1963.

 ومن تلك القوى تكني نفسها اليوم (مقاومة)، وهي محض فلول بعثية وسلفية مندحرة تروم خلط الأوراق، تعطي لنفسها مبرر محاربة أمريكا (المسيحية جدا)،لكنها تقتل الأبرياء من أهلنا دون وازع أو رادع مستغلة غياب سلطة الدولة، وبعيدا كل البعد عن الأمريكان. وأتذكر في هذه الشجون رد فعل المرحوم  أبي إبان تذبيح البعثيين لشرفاء العراق بعيد إنقلاب 8 شباط ،بأن العراقي لايذبح من يخالفه الدين والعقيدة، فكيف سالت للبعثيين أنفسهم القتل على خلفية الخلاف السياسي، الذي هو أدنى شأنا من الخلاف العقائدي الروحي.ثم حدث أن أشاعوها لأربعة عقود حتى سقوطهم المدوي قبل ثلاثة أعوام.

 ويمكن أن تكون للنزعة القومية مبررها في طرق الجانب الطائفي كورقة من ضمن سياقات دجلية وترويجية واهية، سمعناها من جهات قومية متعددة وفهمنا فحواها. ففي شمال العراق مثلا، فان القوى القومية الكردية لديها كل المصلحة بإخلاء القرى النصرانية من أراضيها، كي تخلى من مالكيها الأصليين وبذلك يتم الأستحواذ عليها،ثم تضم الى (الأقاليم) و(الفدراليات) الموعودة ،وتشرعن وتدجل من ضمن منظومة المسلمات والبديهيات الرائجة اليوم وتعتبر أمر واقع لا مراء فيه. وقد تجسد الأمر في الإنتخابات ، وما فضيحة سهل نينوى إلا خير دليل عليها. وما يروج (دعائيا) بالإهتمام والعناية، لايشكل إلا ذر الرماد في العيون.

 لقد خمدت ثورة الآشوريين منذ أن أستباحها بكر صدقي (قوميا) منذ العام 1925 بحجة الدين وهو منه براء. والأمر عينه حصل لليزيديين على يد سعيد حمو، أما مصاب السريان والأرمن وحملات التطهير العرقي ضدهم، فلم تتم على يد الأتراك إلا قيادة وتمويلا، أما نحرهم فتم بأيادي قومية(أغواتيه) كردية ، يتحاشى (المثقفون) الحديث عنها ،لكن أنبرى الكردي الدكتور كمال سيد قادر لسردها واقعيا، فرمي في غياهب السجن..

لم يكن العروبيون إلا أسوء من جميع التوجهات القومية، فقد أشاع الملكيون جرما بالأقوام والفئات بنزعة عروبية متراكبة ومعقدة. لكن الأمر اتخذ إبان تسلط الشموليين البعثيين أبعادا منظمة.  لقد حثت الممارسة البعثية ذوي المواهب الوصولية في الطفوح إلى السطح،وأستعملوا صيغ الكيد والضغائن و(كتابةالتقارير) وسيلة للقضاء على فئات دينية بعينها. لقد قرب البعثيون العناصر الهزيلة من كل طبقات الناس وفئات الوطن الدينية والعرقية، ليتاجروا بأسمائهم.فطفق أسم أشخاص لايمتون بالفضيلة الدينية بصلة أن تبوؤا المناصب ومنهم مثلا طارق حنا عزيز وعبدالرزاق عبدالواحد ،حينما تداعى أسمهم وبالاً على الملة التي قدموا منها.  ودليلنا أن تلك الفئات عانت وسحقت ثم تشتت مثل جموع العراقيين  دون فرق يذكر.

لقد أمسى الفكر القومي (بأنواعه) وبالا على سليقة وتلاوين الفسيفساء العراقية ،وتداعى الى مانحن عليه اليوم. ولو كانت السلطة الملكية (متنورة) بما يكفي في إختيار صفة المواطنة أو (القومية الوطنية) على المنهج الفرنسي وليس(القومية العرقية) على منهج فخته  الألماني، لكان عمر الدولة العراقية أمكث وأطول،ولكان نصابها واقعيا، فلم تهمش فئات على حساب أخرى الذي تداعى إلى الإنعطافات الكبرى في مسار العراق الحديث. وثمة مفارقة غريبة في هذا السياق بأن القوتين المحتلتين الإنكليزية 1917 والأمريكية 2003 اختارت للعراق النوع (العرقي والطائفي) حلا ومنهجا في بنيوية الدولة العراقية، وكأنهم في ذلك رسموا مستقبلا ملغوما لأجيال أهل بيت النهرين ،كما حدث في سقوط الدولة العراقية الأولى بعد ثمانية عقود من تأسيسها،غير مأسوف عليها.

نرجع التسامح الديني إلى البنية الفلاحية للحياة العراقية، حيث أن الفلاح يحتاج إلى من يساعده في تراتبية العملية الإنتاجية، ولديه مردود وفير من المنتج بما يكفي ويزيد عن حاجة الجماعة، وهكذا أمسى لايفرط بأحد لحاجته إليه، وتداعى  الأمر إلى أن يهادن و يتسامح معه ويتحاشى الخلافات والقطيعة،كي تستمر عجلة الإنتاج التي تعتبر بحد ذاتها غاية الحياة . وإذ نلمس الأمر في التكامل والانسجام بين الصابئة والمسلمين في الجنوب العراقي مثلا.والأمر برمته يقع  على نقيض البداوة التي لجأت بسبب شحة المردود في بيئة الصحراء المجدبة إلى التصفية الجسدية، التي كانت تلغي عن طريقها منافسا في العيش.وبذلك أمسى البدوي لا يتسامح لكي يستغلها سببا في شطب وإفناء الآخر كمنافس في العيش ،وتعذر بالشرف الرفيع حينما مارس وئد الإناث مثلا ،وهو في حقيقته عملية حد من الظاهرة التكاثرية في المجتمعات كون المرأة سببها. لذا جاءت الأديان مكرسة لروح الحضارة على حساب البداوة، وتبنت التسامح والصفح، على السنة الحضرية والفلاحية، ونجد الإسلام قد أنتقد الأعراب في القرآن صراحة، وهي بحد ذاتها تجسد روح الصفح التي سجي عليها العراقيون من قبل إبراهيم(ع)، والتي جاءت مشتركة في الديانات الإبراهيمية التوحيدية  .

العراقيون يزهون إختيالا بأنهم الوحيدون ملل ونحلا يتزاوجون فيما بينهم ، دون عائق أو مانع. والعراقيون يكفيهم فخرا أنهم لم يحدث في تاريخهم الطويل نزاعا دينيا واحدا، وحتى لو حدث ذلك سنجده من تداعيات سياسية خارجية، أو صراع بين دول الجوار والعالم التي تغذي التناحر الداخلي، حيث لا يملك العراقيون في حيثياتها ناقة ولا جمل. ولم نسمع ولا مرة أن حدثت تصفيات على خلفية دينية مثلما حدث بين نصارى ومسلمي حلب أو بين دروز ومسلمي ونصارى الشام عام 1863 بما دعي في حينها(طوشة النصارى)،التي كانت سبب في الإخلاء الأول لنصارى الشرق إلى العالم الجديد، أو حتى ماحدث في الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة التي كان جوهرها ديني. وهو يحاكي ما حدث مع نصارانا(لاسيما الآشوريين) ،حينما هجروا ،وتجمعوا في ديترويت إبتداءا من ثلاثينات القرن العشرين .

أن  حروب السلاجقة والبويهيين ثم العثمانيين والصفويين وبعدهم القجريين كانت سياسية محضة، أملتها مصالح الدولتين بالهيمنة على خطوط التجارة (خط الحرير) الذي يخترق أراضيها، أكثر من إنشغالهم باختلاف الفقهاء والمفتين بالدين. ولم تكن يوما مذهبية بين التشيع والتسنن ،كما يروج لها فهي كانت قبل الإسلام بين اليونان والبرثيين ثم تحولت بين بيزنطه وساسان، على نفس المبرر الاستحواذي ،ودون تشيع أو تسنن،واليوم تحولت بين تركيا وإيران بالرغم أن دولة تركيا الحديثة علمانية .

 وما يحز بالنفس أن هؤلاء المتناطحين جعلوا من أرض العراق ساحات وغى وتصفية حسابات مصلحية، وراموا جر أهل بيت النهرين إلى مآربهم ،فأمسى بشهادة كل المؤرخين مدعاة وحدة لأهل هذا البيت .وحدث أبان الصراع بين العثمانيين والصفويين أن يحمي السني الشيعي والشيعي السني . ونقل المؤرخون موقف  عالم الدين الشيعي الذي أفتى  بأن السنة هو الموالون  للإمام علي ولايجوز قتلهم ،كي يقطع الطريق على قرار الصفويين بذلك. وعندما حل العثمانيون أعتبروه عميلا للصفويين فأعدموه، رحمة الله عليه.

وفي القرن التاسع عشر تذكر أخبار العالم (السني) ابو الثناء محمود شكري الألوسي ،كيف كان يزدري السلفيين والوهابيين ويعتبرهم مشعوذين ومارقين ،وكان يتهكم عليهم في مجالسه وخطبه ومقالاته. وبالرغم من سمعة السلفية التي ألصقت به جزافا، فأن أقرب مقربيه كانوا من أهل التصوف والتشيع.

وإذا أردنا أن نسرد قصص العامة وخواطر الناس بصدد نزعة التسامح يجدر أن تجمع في دائرة معارف، وتدرس في المدارس وتلقن. أتذكر مثلا والدي ،كان دائب التذكر لجاره اليهودي (أبو الياهو) الذي سفرته السلطات العراقية عام 1951 ، ولم يعد يسمع عنه،بالرغم من المحبة التي جمعتهم . وكان يردد (ياترى هل يتذكرني أخي أبو الياهو مثلما أتذكره) .

كتب الصحفي ماجد عزيزة في إحدى خواطره ( لاأدري إن كان جدي لوالدتي سيكرر على مسامع جدتي ( رحمهما الله) وصيته الشهيرة وهو يستعد لمغادرة بيتنا في الموصل القديمة منتصف الخمسينات من القرن الماضي ، حينما كان يوصيها في شهر رمضان بأن تبتعد عن طبخ الأغذية التي تنبعث منها رائحة المقليات ، كي لا ( يشمها) الصائمون من جيراننا المسلمين . أقول لا أدري إن كان سيكرر ذلك عليها في الوقت الحاضر لو كان حيا ، وهو يشاهد ويرى ويلمس ، ما يحدث لبيوت الله المسيحية في العراق . ونذكر اقدم من ذلك ما ورد في موسوعة العراقية ماريا تريزا الأسمر (مولودة في تلكيف عام 1804)، حيث دونت في موسوعتها التي تقبع اليوم في قبوات المكتبة البريطانية ، بأن أبوها عاقب أخيها الأصغر، كونه صعد على النخلة في البستان وصاح (الله أكبر)، ومبرره أن ذلك يثير حفيظة أخوته المسلمين ويجرح مشاعرهم.

ولدينا في سيرة الفنانة التشيكيلة (أمل بورتر) شجون ونوادر، حيث أبوها أنكليزي وأمها مسيحية عربية،وكان خوالها عروبيون حتى النخاع، حتى أن أحدهم  وأسمه جورج سمى أبنه (محمد). و تذكر كيف أن أمها المرحومه لؤلؤ ، وهي ثاني أمرأة عراقية تحصل على إجازة سياقة عام  1931  بأنها كانت لا تأخذهم إلى الطبيب حينما يمرضوا وهم صغار حتى سنوات الصبا والشباب،  حيث كانت تلبس عبائتها ، وتركبهم السيارة وتذهب بهم إلى ضريح الإمام (موسى بن جعفر) (ع) في الكاظمية طلبا من لدنه شفاعة عند ربه، وشفاءا لأولادها . وكتب لنا السيد علاء مهدي بأن السيدة والدة زوجته ،وهي عراقية أرمنية ، كانت قد أعتادت زيارة مقام الإمام موسى الكاظم بصورة دورية تنفيذاً لنذر أو للإستقراب والتودد بحسب الظرف المحيط بها.

ومن المعلوم أن الكثير من نصارى العراق ويهوده ومندائييه، يذهبون لزيارة العتبات المقدسة في الكاظمية وسامراء والنجف وكربلاء، مثلما يذهب المسلمون لزيارة (ذي الكفل) و(العزير) (ع) التي يعتقد الكثيرون أنها حكرا على اليهود، والكل يذهبون إلى خضر الياس في بغداد. ويتذكر الأستاذ أبو نمير نهاد سليم ،كيف أنه ورفاقه من الصابئة والمسلمين كانوا يتبركون بقبر السيد عاشور (توفى عام 1957) في العمارة-منطقة الماجدية،وهو أحد السادة الشيعة .

ومن الجدير ذكره أن والد الأديب موسى الخميسي،لم تستطع الجارفات من الإقتراب من قبره لأزالته في الدوره ، حتى أجبرهم الأمر إلى احترامه وعزله وتسييجه ، وجعل الأمر أهل الحي من المسلمين يتبركون بروضته. ويخبرنا موسى كذلك بأن أمه الصابئية المندائية  كانت تمنعه وأخوته من أكل سمك (الجري) الذي يرفضه الشيعة. وقد سألها يوما عندما نضج عن فحوى هذا المنع ، فأخبرته بأن سمك الجري مكروه لأنه (خبط الماء من أمام الإمام علي) (ع) كما تتناقله العامة. ويقول أننا كنا نسترسل معها مزحا (مالك أنت والإمام علي.. لخاطر الله) فتجيبهم (لا يمه شلون.. جا هذا أبو الحسن ياهو مثله).

ولنا تجربة شخصية مع أختنا (عروبة بايزيد الأموي) اليزيدية، وهي تردنا مع أخواتي التي تجمعهما صداقة حميمة من زمالة جامعية. حيث كانت تحبذ زيارة الإمام موسى بن جعفر( الكاظم) (ع) الذي يقع على تخوم حينا. وكانت كثيرة الدعاء والترجي وطلب العون في حضرة ( باب الحوائج )الإمام أبو الجوادين.

حضرنا مرة حفلة تعميد طفل أحد أصدقاءنا المسيحيين في كنيسة في ستوكهولم.  فرافقتنا والدتي ، وجلسنا نرقب طقوس الشماس وهو يعمد الطفل ، وإذا بالمرحومه والدتي القادمة من هور العمارة ،تتذرع إلى الله وتقرأ سور من القرآن . فسألتها بتهكم مبطن: ماذا تفعلين يا أمي؟، فقالت دعني أقرأ أيات الله في بيت الله .

وربما تكون جهات الموصل محكا محضا للروح للعراقية، فمحيطها وشعاب تلالها وجبالها مكامن للثراء الروحي العراقي، وينقل القاصي والداني الألفة والتعاضد بين تلك الجهات على الميزان الأخلاقي، الذي يتسابق الجميع لتجسيده،لأعطاء صفة القدوة الحسنة.والحال عينه يتجسد في كركوك وبرجها البابلي العراقي، حيث كان قدرها أن تكون بوتقة يلتقي في أحيائها الجميع على المحبة العراقية.

ويعرف سكان القشل ببغداد في الخمسينات شابا أسمه (طوبيا) نصراني عراقي كل أصدقاءه من غلاة الشيعة، وكان محبا لهم مثلما هم يبادلوه. حيث كان يشتري قبل كل عاشوراء (دشداشة) سوداء وتجده دائما يتصدر مواكب عزاء الإمام الحسين (ع) في الحي، وكان أول الناهضين للطم معهم. وقد كان جل رفاقه ممن يفضل أن يصبغ (دشداشته) بلون أسود ،لضعف الحال ،بالرغم من أن العرف الاجتماعي كان يعتبر الدشداشة السوداء الجديدة تكسب صاحبها أجرا أكبر،مما دفع بطوبيا يكون سباق لكسب الأجر بشفاعة سيد الشهداء.

أجزم في تلك الشجون بأن ثمة الكثير من الخواطر التي يحملها كل منا ،وأتمنى تدوينها عن تلك الروح المتسامحة التي غرسها الله في سجايا أهلنا الكرام. وإذ أتمنى أن نظهرها للملئ ونذكر بها الجميع ونعتد إفتخارا بأننا أمة لم تقتتل بسبب دين أو عرق أو مذهب حتى وطأنا شيطان البعث فشتت شملنا.وإذ نجزم أن أي ترويج قومي عنصري أو ديني طائفي تنهجه قوانا السياسية، هو محض إنزلاق وجهالة جديدة، بما يزيدها نأيا عن سوي روحيتنا وعقليتنا العراقية المسترسلة منذ غابر الأزمنة، ويفرزها مع الوقت بأنها محض أداة طيعة موجهة لمصالح أعداء العراق والباحثين عن فناءه والإستحواذ عليه.سوف تنال تلك القوى لاحقا النقد والازدراء الذي أمسى مصير كل من أراد للعراقيين تناحرا طبقيا أوقوميا واليوم طائفيا . 

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة