الحوار بين المذاهب والاديان مطلب اسلامي..

 

آية الله السيد محمد حسين فضل الله/ بيروت

 

 

لم يعد بالإمكان – في هذا العصر – تقوقع الذات عن الآخر، إذ أصبح تشابك العلاقات الإنسانية، وما تواجهه من تحديات تجاه قضايا مشتركة، يفرض على الذات ان تدخل في الحوار، من أجل المصلحة العامة التي تجمع بين البشر، بطريقة وبأخرى.
وفي هذا المجال، نجد أن الواقع المعاصر الذي بدأ ينفض يديه من الدين، أيّ دين، بفعل حركة الحضارة المادية التي تثير في الذهنية العامة للإنسان الكثير من المفاهيم المادية البعيدة عن الله والايمان، هذا الواقع يؤكد ان مسألة الحوار بين الأديان ترقى الى مستوى الضرورة التي ينبغي ان تقابل بالجدية اللازمة.
نحاول ان نطرح عدة نقاط أساسية، نعتبرها منهجية في جدية أي حوار، خصوصاً اذا كان في مستوى حوار أديان ينبغي لها أن تحكم حركة الإنسان من مبدئه الى آخرته.
1-  لا إيمان دون حوار : في النظرة الإسلامية، لا إيمان من دون حوار، لأن الإيمان يبدأ من حديث الإنسان مع ذاته، في حركة التفكر الداخلي، حيث يدور الجدل بين احتمال واحتمال، وفكرة وفكرة، بين النفي تارة والإثبات أخرى، حتى يتكامل صنع الانسان لعقيدته، التي تتحدد على ضوء قناعته بما يرى انه يمثل الحقيقة.
واذا كان الحوار الذاتي السابق يدور في عالم العقيدة، فإن ثمة حواراً داخلياً آخر، يتمحور حول تركيز التزام الانسان الديني واستقامته عليه، وذلك عندما يدور التجاذب بين منطق العقل ومنطق العاطفة، وبين نقاط الضعف ونقاط القوة، امام كل المثيرات والمغريات التي تدفع الانسان الى ما يضاد قناعاته، على مستوى العمل.
وبكلمة موجزة: إن الايمان ينطلق من حركة حوار تديره الذات مع نفسها، هدفه هو الوصول الى وحدة الانسان في قناعاته العقيدية والتزاماته الفكرية والعملية، فلا يبقى يتحرك في ازدواجية تجعله يتحرك بين الشيء ونقيضه، في عملية اهتزاز فكري وحسيّ وعاطفي، ما يسلبه الطمأنينة والأمن والاستقرار الذي يحتضن الايمان.
 الايمان حركة في العقل : إن المنطق المتقدم يجعلنا نصل الى حقيقة دينية أصيلة، وهي ان الإيمان حركة في العقل، وليس فوقه، حتى الماورائيات الغيبية، لا بد من رصد وجودها وإثباتها بالعقل اولا، وإن كان العقل لا يتمتع بالقدرة على معالجة ما فيها من مفردات، لأنه لا يملك وسائل اكتشافها ذاتياً. تماماً كما هي الفلسفة، قد لا تستطيع من خلالها معرفة كنه الجوهر، ولكنك تستطيع ان تشير اليه.
إن الانسان مؤمن بما يعقل، ولو في بعده الإثباتي، لأن العقل هو الميزان بين الحقيقة والخيال والوهم، وقد ورد في أدبياتنا الاسلامية – على نحو المثل - : "لما خلق الله العقل، قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له أدبر، فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي، ما خلقت أعز عليّ منك. أما إني إياك آمر وإياك انهى، وبك أثيب وبك أعاقب".
 فهم الدين بشريّ : مع الإذعان بأنّ الأنبياء معصومون عن الخطأ في تبليغ رسالتهم، كما ان فهمهم للرسالة ينطلق على عين الله سبحانه وتعالى، إلا أن فهم الدين لا يمثل الا وجهة نظر المجتهدين في تلمس حقائقه الموضوعية، ما يجعل من الطبيعي ان نجد الاختلافات الاجتهادية في فهم الدين، والتي تمخضت عن مذاهب لم يسلم منها أيّ دين، وقد قال تعالى في القرآن الكريم: (ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك، ولذلك خلقهم .
على ضوء ذلك، وما تقدم من مسألة خضوع الإيمان للعقل، فإن للدينالمنتج اجتهادياً - وجهة ثقافية يمكن لأيّ إنسان أن يتخصص فيها، ويدخل في حوار حولها. ولذلك، نجد ان الفكرة التي تقول بأن المسلمين أعرف بإسلامهم من غيرهم دائماً، وإن المسيحيين أعرف بمسيحيتهم من غيرهم دائماً، وأن اليهود أعرف بيهوديتهم من غيرهم دائما، وهكذا سائر الأديان، هي فكرة غير علمية وغير دقيقة، لأن نقاش الفكرة الدينية، في بعدها الثقافي، كنقاش أيّ فكرة، يخضع للموازين العلمية في الاستدلال على صحتها او خطئها، والتي ترتكز الى منهجية إنسانية عامة، ومفردات ثقافية معرفية تمثل أدوات مقاربة الموضوع. ولعل ما أوجب ذلك النوع من احتكار أتباع كل دين لدينهم، هو الخلط بين البُعد الثقافي للدين والبعد الطقوسي العبادي، مما ليس الان مجال بحثه.
ما نود الاشارة اليه في هذه النقطة، هي فكرة الاحتكار المعرفي للدين، من شأنه ان يفوّت على الحقيقة فرص التلاقح الفكري، عبر الحوار، الذي يفتح فرص الاطلالة على أكثر من وجهة نظر في فهم الحقيقة، ما قد يشكل جزءاً في معرفتها، يمكن – في النهاية – ان تتكامل الأجزاء في تشكيلها لصورة واضحة المعالم، بدلا من استغراق كل فريق في جزء يحسب انه تمام الصورة.
ولعلنا نلمح هنا عظمة المنهج الحواري الذي ركزه القرآن الكريم للنبي محمد(ص)، وهو قوله تعالى: (وإنّا او إياكم لعلى هدى او في ظلال مبين)، حيث لم يطرح المحاور صوابية فكره وخطأ الفكر الآخر، بل على أساس فكرة مطروحة يتساوى فيها احتمال الخطأ والصواب، ما يعزز من فرص إدارة الحوار بأكبر قدر من الموضوعية العلمية التي تنشد الحقيقة من موقف حيادي، دونما أي تعقيد او تهويل.
ولذلك، نجد ان الحوار يمثل نوعا من التفكير بصوت مسموع أو مقروء. هذا هو جوهر دعوة الأنبياء للناس، والتي تريد منهم ان يدخلوا في مناقشة جدية لما يطرحونه من أفكار، في الوقت الذي كانوا يواجهون الفكر بالسباب والسخرية والاضطهاد والأفكار المسبقة.
4-  لا محرمات في الحوار:  إذا خلصنا الى ان الايمان هو فعل حوار عقلاني، فمن الطبيعي ان لا يكون هناك محرمات او مقدسات في الحوار. وقد لمسنا هذا الامر في القرآن الكريم الذي ذكر كل المفردات التي اتهم بها النبيّ محمد (ص) في شخصه ورسالته، ثم عالجها بكل جدية وموضوعية: هل هو مجنون أم عاقل؟ ساحر أم نبيّ؟ كاذب أم صادق؟ قرآنه من صنع البشر أم إلهي؟
ولذلك، فإن على أيّ حوار – إذا كان ينشد الموضوعية والعقلانية – ان لا ينطلق من مسبقات قداسوية، فإن التقديس ذاته لا بد ان يدل عليه العقل، بالدليل والبرهان.
5-  تكامل الأديان : في المفهوم الاسلامي، تمثل الرسالات السماوية حركة تكاملية تصاعدية في بناء الحضارة الانسانية، أساسها التوحيد: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). ولذلك، كان كل دين مصدقاً للدين السابق، ومكملا لما فرضت الظروف تعديله أو تغييره. وعلى هذا الأساس كانت نسبة الدين الى الله واحدة، وقد قال تعالى: (آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكُتُبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا واليك المصير). وهذا ما يفترض – بالضرورة – وجود مقاصد مشتركة للأديان، لا بد للحوار من أن يخدم تلك المقاصد الرسالية الدينية العامة، والتي تقدم – بدورها – خدمة جليلة للحضارة الانسانية، في وقت بقي فيه الحوار بين الأديان على السطح، وفي إطار المجالات التي تمنع من التحرك بواقعية.
6-  أسس الحضارة : نرى ان الحضارة في بعدها الانساني تقوم، في امتدادها الفكري والعملي، على أساس العناصر التالية:
أ- احترام الانسان للانسان. وفي هذا المجال، ركّزت الأديان جميعاً على الكرامة الإنسانية، إذ كان الهدف من كل الرسالات السماوية هو هداية الانسان الى الطريق المستقيم الذي يرتفع بمستوى إنسانيته الى أن يكون أفضل من الملائكة في طُهرها وصفائها. وقد قال الله سبحانه في القرآن الكريم: ( ولقد كرّمنا بني آدم ) .
ب- تفاعل البشر في طاقاتهم ونتاجهم، والذي يمثل سيرورة طبيعية لوجود الانسان على الأرض. وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم) .
لا بد ان تخاطب الحضارة، في كل اهدافها وحركتها ونتاجها، في الانسان كل ابعاده، اذ نعتقد ان الانسان يمثل ذلك التفاعل المميز بين المادي والروحي، فهو "قبضة من الطين ونفخة من روح الله". واذا كان الدين نزل لخدمة الانسان، ولم يوجد الانسان لخدمة الدين، فان الحضارة لا بد ان تسير في هذا الاتجاه. وان الحضارة التي تختصر الانسان في بعد واحد هي حضارة تبعد الانسان عن الحياة او تغرقه في اتون الغريزة الجموح.
الايمان بالعقل الذي هو الاساس لصناعة الفكر وابداعه، وانتاج العلم، والذي يتحرك بين مصدرين: التفكر والتجربة العملية. وفي هذا المجال نجد ان الدين لا يتنكر للعلم وابداعه، وقد اكد القرآن الكريم على ذلك في قوله تعالى: "(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، انما يتذكر اولو الالباب) (سورة الزمر، الآية 9)، واعتبر ان حركة انتاج العلم والمعرفة هي حركة تصاعدية، وهو ما اكده الله سبحانه لنبيّه محمد (ص) في قوله تعالى: (وقل رب زدني علما) (الآية 114). وقد أوجبت الشريعة الاسلامية على الناس ان يتحركوا في خطوط العلم التي يتوقف عليها نظام المجتمع في جميع المستويات. ولو تحرك الناس في علم واحد، لما استطاعوا ان يصنعوا للحياة نظامها. ولذلك كانت حركة انتاج العلم – انسانيا – هي حركة تكاملية التي تتكامل فيها الشعوب والمجتمعات والحضارات.
  ان القرآن يؤكد على المسلمين ان يأخذوا بالمسالمة العامة مع كل الفئات المسالمة، من كل الناس الذين يختلفون معهم، وذلك بالأخذ بأسباب العدل، في معاملاتهم وعلاقاتهم العامة والخاصة، وبالاحسان اليهم في المعاشرة، وذلك هو قول الله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا اليهم، إن الله يحب المقسطين (سورة الممتحنة، الآية 8)، أما الذين يمارسون العدوان بالقتل والتشريد ومساعدة الاعداء، فلهم وضع آخر، باعتبار أن الامر عندئذ يتمحور حول الدفاع عن النفس، وذلك هو قول الله تعالى: ( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون( )سورة الممتحنة، الآية 9) .
وفي ضوء ذلك، فإن هذا الموقف الدفاعي، مقارناً بكل الآيات التي أمرت بالانفتاح على الآخر، نجد أن مسألة الجهاد في الاسلام ليست مسألة عدوانية قائمة على اساس الاختلاف في الدين او الرأي، بل هي مسألة وقائية في حالة، ودفاعية في حالة اخرى، خلافاً لما يفهمه البعض، حيث يفسّرون الجهاد بطريقة سلبية. ولعل الدراسة الدقيقة لتاريخ الحرب في حركة المسلمين توحي بذلك.
مع ملاحظة مهمة، وهي أن التاريخ الاسلامي لا يمثّل العصمة المطلقة في كل مواقعه، كما هو شأن تاريخ سائر الاديان. وعلى أساس ذلك، فمن الممكن أن تقع الاخطاء او الانحرافات عن الخط المستقيم، مما قد يعترف به الباحثون المسلمون في دراستهم للحروب الاسلامية في الماضي.

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة