عذابات ( تموز )

 

  د. فاضل سوداني - كوبنهاكن

   fasoudani@maktoob.com

 

تموز اله الخصب والذكورة، وخلفه وعلين ونخلة، للتعبير عن امتلاكه للخصب والخضرة والحياة ..

 

يعتبر موت وقيامة الاله (تموز) ((دموزي)) احد الطقوس التراجيدية المهمة بسماته الاسطورية والطقوسية والفلسفية، فهو الخزين التراجيدي في روح انسان وادي الرافدين. ولحجم الاضطهاد والعذاب الذي تعرض له الإله ( (دموزي) ـ  (تموز) ) وعلاقة حبيبته الآلهة (عينانا) (عشتار) ودورها الملتبس بهذا الموت المأساوي أدى الى أن تمتلئ المثيولوجيا والآداب السومرية والبابلية بمناحات واساطير وملاحم وطقوس تعزية خاصة بمآسي آلهة الخصب الشهيرة هذه وغيابها عن الحياة ، ومن ثم قيامتها من جديد ، ويعتبر كل هذا حتى الان من أرقى وأغنى ما كتب  في مثيولوجيا شعوب وادي الرافدين .

ومن خلال هذه القصائد والاساطير والطقوس  تكثفت معرفتنا عن إختطاف إله الذكورة والاخصاب ( دموزي ) ، من قبل شياطين العالم الاسفل  ونواح الهة (الانوثة) (عينانا ـ عشتار)  على (ذكرها ـ  زوجها وحبيبها وأخيها) بعد ان سلمته  هي للموت. لكن هذه الالهة أرادت ان تكفر عن خطئها ، فبدون (تموز) لا يتم أي إخصاب بمختلف أشكاله  سواء في الطبيعة او بين البشر، وهذا يعني القحط والجفاف وفناء الحياة، مما دفعها للهبوط الى عالم الموت للبحث عنه وتحمل المآسي  والصعوبات التي رافقت رحلتها . وتعبيرا عن ضرورة الخصب في الكون مارس شعب  النهرين الحزن الجماعي على (دموزي) السومري ـ (تموز) البابلي  و مشاركة الالهة (عينانا) ـ (عشتار) في مصابها على حبيبها او نصفها الاخر. ويعد هذا الطقس نقيض طقس الزواج المقدس ، ولكنه مكمل له في ذات الوقت . فعندما سلمت الالهة (عينانا) السومرية الاله (دموزي) كبديل لها ، فان الالهة (عشتار) في النسخة البابلية هي التي هبطت من جديد لإنقاذه ويعد هذا إنقاذاً لحياة الكائنات والطبيعة وكل مايمت بصلة بالخصب .

وقد بدأت مأساة الاله (تموز) عندما وقع بين أيدي شياطين ( الجلا ) وهي مخلوقات لاتعرف الرحمة وتقتات على الطين ( انتم العفاريت الذين لا ام لهم ولا اب ولا إخت ولا زوجة ولا ولد / الذين يرفرفون حائمين في السماء والارض مثل رؤساء الحرس / انتم العفاريت الذين يتشبثون بجنب الانسان / الذين لا يعرفون ما الفضل ولا يعرفون الخير و الشر / ) وتنفيذا لتطبيق  قاموا بشد وثاقه  في الحال وعذبوه تمهيدا لنزوله في جحيم الموت ، وبعد توسلات كثيره من قبله لجميع الالهة لمساعدته ، و توسلاته الى صهره إله الشمس :

 ( ايه  أوتو، أنا صديقك ، أنا الفتى الذي تعرفه / إتخذت اختك زوجا / إستبدلتني لأكون عوضا منها في العالم الاسفل / إيه أوتو، انت القاضي العدل ، لاتدعني أموت ، / غير يدي / بدل صورتي / دعني افلت من شياطيني ، فلا يمسكوا بي ، / مثل حية ساجال سوف اجتاز مروج الروابي /  سوف  أنقل روحي  الى بيت اختي  جشت نانا) . ويستجيب (إله الشمس  أوتو)  لإنقاذه  ويحوله الى ثعبان يختفي في الحقول . ظل الاله المنفي (تموز)  مطارداً ، بدون سقف يحميه او زاوية يركن اليها، مامن دكة يتكأ عليها، مامن باب يصد عنه الريح ، ما من مكان يحتمي فيه . منفي ، مطارد وحيد هو، لا يملك سوى جذوة روحه ، هو ومصيره . هذا الاله المنفي سيد البلاد المعذب. ويبقى هائما حتى يصل الى بيت اخته ، وعندما تراه تصدر نواح مر، نواح لا مثيل له  لانها كعرافة ترى نهايته المستقبلية الاليمة : ( جشتي نانا حدقت في اخيها،/ خدشت وجنتيها ، مزقت فمها / …… شقت ثيابها / صدر عنها نواح مر على السيد  المعذب / اواه يا اخي ، أواه، أيها الفتى الذي لم تكن ايامه طويلة / أواه يااخي الفتى الذي لازوج له ولا ولد / أواه يااخي الفتى الذي لاصديق له ولارفيق / أواه يااخي الفتى الذي لا يجلب  العزاء لأمه / )

 وأثناء نوم الاله الهارب من قتلته ، يرى كابوسا مخيفا له دلالاته الرمزية كما يحدثنا الشاعر السومري ـ البابلي  بكلمات شعرية معبرة و موجزة وذات بعد تراجيدي ، فمن خلال اللقطة الخاطفة ذات الايقاع السريع كما في السينما المعاصرة ، يكثف لنا الشاعر الصورة الدرامية  التي تعبر عن مأساوية النهاية الحتمية لمصير الاله ( استيقظ ، كان حلما / اضطرب ، كان رؤيا،/ فرك عينيه ، انتابه دوار ) .

وكما يرى الاله في حلمه فان الأسل  يتكاثف من حوله فقط هنالك حزمة من القصب تحني راسها امامه.وعلى مثواه المقدس لايسكب ماء، وطاسة اللبن المقدسة المعلقة الى وتد تسقط وتنكسر، ومحجنة (عصا) الراعي  (دموزي) تختفي ، وبازا يمسك حملا ببراثينه ، وماشية الاله تجرجر لحاها اللازوردية على التراب وتدب على الارض بقوائم ملتوية . ومامن لبن يسكب والطاسة محطمة.(دموزي) لن يعيش الهدوء بعد الآن، فحظيرة الغنم في مهب الريح .

ان رموز هذا الحلم تدلل جميعها على صفات الاله باعتباره راعيا، ولذلك فان الشاعر استخدم كلمات مكثفة الصورة وترمز  لطبيعة مثل هذه الحياة . وحلم الاله يظهر لنا الحالة التراجيدية والحزن الذي يلف شغاف قلبه . وعندما تبدأ (جشتي نانا) بتأويل حلم أخيها وتفسيره يكون التأويل أكثر رعبا وتراجيدية من الحلم ذاته . حيث تنبئه بان الاسَل الذي يلتف من حوله هو سفاحون سينقضون عليه والأشرار سوف يرعبونه وحظيرة الغنم سوف تغدو خرابا . ولكن تمسك الاله (دموزي) ـ (تموز)  بالحياة يدفعه الى الاختباء  في مكان سري آخر لايعلم به سوى اخته بعد ان يستحلفها ألا تدلهم على مكان مخبئه ،( سوف اختبئ بين النباتات الكبيرة ، لاتقولي اين أنا / سوف اختبئ بين أخاديد  " أرالي "، لاتقولي اين أنا ) فتعده بذلك .( إذا قلت اين مخبؤك، فلتاكلني كلابك .)

 لكن شياطين الجلا يتشاورون فيما بينهم عن مكان اختباؤه ( من ذا الذي يرى انسانا تملكه الخوف يعيش بسلام / ألا، فلنمتنع عن الذهاب الى بيت صديقه ، وعن الذهاب الى بيت صهره/ فلنمضي باحثين عن الراعي في بيت جشتي نانا) وعندما يصلون الى هناك يعذبونها من اجل ان تدلهم عليه ، لكن دون جدوى ( دلينا أين يختبأ أخوك ، قالوا لها ، لكنها لم تدلهم ،/ جاءوا بالسماء قريبا منها ، ووضعوا الارض في حجرها ، لكنها لم تدلهم ./ جاءوا بالأرض قريبا مزقوها ، لكنها لم تدلهم، / جاءوا بها قريبا …… بعثروها فوق ملابسها ، لكنها لم تدلهم / صبوا في حجرها قاراً ، لكنها لم تدلهم / لم  يجدوا (دموزي) في بيت  جشتي نانا / ) وهكذا تفي أخت الاله بوعدها.إلا ان  (تموز) يشعر بالذنب بسبب الآلام التي عانتها اخته ( إن اختبأت في المدن، أكون جلبت نهاية لأختي./ ) فيسمح لمطارديه ان يمسكوا به  بطريقة ما . وعندما يتم هذا يشعر بالخوف من الموت  فيتوسل الاله أوتو من جديد كي يحيله الى غزال ، غير ان الشياطين الاشرار لديهم  مهمة  تنفيذ قانون العالم الاسفل ولابد ان يجدوه فيطاردونه يفلت ايضاً منهم وهو دلالة على الصراع بين قوى الاخصاب وقوى الموت . وفي الختام يمسكون به وهو مختبئ في حظيرته في الصحراء . يعذبونه من اجل ان يرسلوه الى عالم الموت الابدي . وبهذا يتحقق كابوسه . لكن اخته تقوم بالتضحية الكبرى عندما تعرض على شياطينه ان تحل محله في عالم اللاعودة كبديل عنه . وعقابا لـ(دموزي) الذي حاول الهرب من قدر العقاب يتم الحكم عليه بان يقيم نصف سنة في عالم الاموات وتأخذ أخته مكانه في النصف الثاني . وعند موت (دموزي) يعم الجفاف في الكون . عندها يمتلأ قلب الالهة (عينانا) ـ (عشتار) حزنا على حبيبها فتصاب بالندم على كونها هي السبب لهذا الجفاف والخراب الذي عم مدينتها ، بتسليمها اله الخصب الى الموت . فيبدأ شعب وادي الرافدين بممارسة طقوس الحزن مع آلهته (عينانا)، وطقس الندم الجمعي على الاله (دموزي) ـ (تموز) حتى تتم قيامته من جديد، عندها يبدأ الخصب في الربيع والصيف بعد الموت والجفاف وهكذا تبدأ دورة الحياة .

 

عشتار مسلحة بقوى الطبيعة وتسيطر على وحش  الفحولة

 

ومن خلال هذه الوقائع السردية لموت وقيامة الاله يمكننا القول بان :

الاختلاف الجوهري لهذا الطقس يكمن في كونه يعالج فكرة اساسية وهي الصراع المستميت بين الحياة والموت أضافة الى  التطرق لبعض المشاكل الانسانية  الاخرى  مثل  الدهاء  والمكر في التخلص من الاعداء، والغيرة والتضحية والحب العميق بين الاخت والاخ، وقد لاحظنا تنوع المكان الذي حدثت فيه الاحداث، كالمعبد ومجمع الالهة والحقول والصحارى وعالم الموت.التباين في سلوك ومصائر الشخصيات، وقد اتسمت شخصية الاله (تموز) واخته جشتي نانا بالتمسك برباط الاخوة القدسي والحنان والرقة مما اضفى عليهما بعدا انسانيا عميقا .  

كم تبدو معاناة الاله (دموزي) ـ (تموز) متشابه في الكثير من فصولها  مع عذابات الانسان  العراقي في جحيمه المعاصر سواء كان في فيافي وسهوب وطنه أم  في منفاه .

 

العودة الى فهرس العدد اطبع هذه الصفحة