خانقين؛ نكهة مكان وعذوبة زمان

 

سعد محمد رحيم / العراق

saadrhm@yahoo. com

 

 

  ثمة مدن تحيا فيها سنين عديدة من دون حب أو ألفة، وحين تغادرها لا تفكر بها كثيراً، وقد تلقيها في ظلمة النسيان، وثمة مدن تمر بها مرة واحدة فتزرع في دخيلتك غابة من حنين يتبرعم في المواسم كلها، وخانقين تنتمي للنوع الثاني.

  كلما مر بخاطري كلمة خانقين، أو ذكرني بها أحد تداعت في ذهني مجموعة حميمة من الصور (خالتي بدرية وأبنائها، وسينما النصر، وسينما الخضراء بقسميها الصيفي والشتوي، وكباب منصور، ولعبة الدنبلة ليلاً، ونهر الوند بجسره الحجري العتيق، والبرلون الإيراني الذي يلوّن السوق القديم، ومكسرات "آجيل عال العال").

مدينة مبرقشة بالألوان

  عند نقطة السيطرة في مفرق ـ السعدية، جلولاء، خانقين ـ تلفت انتباهك لافتة كونكريتية مكتوبة عليها عبارة (خانقين 30 كم) تجتاز بك السيارة، وهي من نوع بولوني، أو مركبة إسعاف محورة، أرضاً ترتفع تدريجياً حتى تصل بك إلى تلال حمرين في شريطها الشرقي، وثمة في أعلى قمة، وهي ليست شاهقة مركز لشرطة الكمارك. بعد سلسلة التلال ينفتح أمامك سهل فسيح يخفق بأمواج السنابل إذا كان الفصل هو الربيع، وعلى حافاتها تمتد مستعمرات شقائق النعمان بحمرتها المتألقة الآسرة.

  قبل وصولك المدينة يصعد الطريق فجأة ليهبط في واد واسع فتتراءى، من الأعلى، حشود النخيل بخضرتها الدكناء، ثم يخرق الطريق خاصرة البساتين. قبل أن تطالعك البيوت القديمة على الجانبين. . أنت في النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين تدخل مدينة اسمها خانقين. . إلى يمينك منطقة آغا وخليفة وإلى يسارك منطقة جلوة، وحين تكون على الجسر الحجري العتيق المبني في أواخر العهد العثماني ترى الوند نهراً واسعاً شحيح الماء، في الصيف، وهائجاً بتياره الغريني في موسم الأمطار. وفي الجانب الآخر، إلى الشرق، تمر بمنطقتي محلة الجامع والحميدية وإذ ذاك يبدأ أول شريط السوق. . دكاكين قديمة تعرض أنواع السلع المحلية الصنع والأجنبية، والمهربة من إيران، وفي مكان ما من السوق ترى الباب الحديدي العالي حيث يقف عدد من أفراد الشرطة. . إنه مركز الشرطة العتيد الذي كان معتقلاً يزدحم دوماً بالسجناء السياسيين مع كل انقلاب يقوم به العسكر المغامرون، وطلاب السلطة.

  مقاه ودكاكين، ومطاعم تفوح منها رائحة شواء لذيذة، وعربات ربل. . ثم لوحة كبيرة تظهر رجال الكاوبوي بمسدساتهم المشهرة نحوك. . هذه إذن سينما النصر، وإذا كنت تريد الدخول يحذرك أحدهم " لا تجلس في الطابق الأرضي لأن بعض الأشقياء في الطابق العلوي يرمون قناني المشروبات الغازية وقشور اللب على رؤوس من هم في الطابق السفلي. . تواصل مسيرك فتصل إلى منطقة المزرعة الواسعة وهي حي سكني ببيوت قديمة وحديثة. أما فلكة كرندي فهي تفضي إلى بناية مستشفى خانقين ومحطة القطار القديمة فيها.

 

 

نهر ومحلات عريقة

   يقول الباحث عبد الستار زنكنة والذي قضى طفولته وشبابه وشطراً من كهولته في خانقين أن منابع نهر الوند الذي يشطر خانقين إلى شطرين، وبحسب المؤرخ الشهيد محمد جميل الروزبياني ـ وقد أكد لـه ذلك شخصياً ـ هي في جبال الوند بمنطقة كرمنشاه في إيران. أما الجسر الحجري القائم على النهر والذي يربط بين جهتي المدينة، كما يقول زنكنة، فبني في العام 1861م، وقد جلبت مواده من أنقاض جسر آخر كان قائماً على النهر بمسافة 60 كم جنوباً عن موقع الجسر الحالي وكان يسمى جسر [ ده باية ] أي الـ [ عشر درجات ] وأن هناك جسرين مبنيين على الطراز نفسه في مدينتي قصر شيرين وأصفهان الإيرانيتين. وهذا الجسر يفصل منطقة الصوب الصغير ويشمل محلتي "آغا وخليفة وجلوة" ويسمى خانقين، عن الصوب الكبيرالذي يشمل المحلات العريقة في المدينة ويسمى " حاج قره".

  ونسأل الباحث زنكنة عن هذه المحلات العريقة فيجيب؛

  ـ محلة عبد الله بك باقسامها الثلاثة (الميدان وقصري باغ، وكوردرة، وجايلغ) ومحلة صالح بك، ومحلة حاجي محلة، ومحلة تيلخانة، ومحلة الجامع، ومحلة الحميدية، وفيها الحميدية القديمة، ومن ثم الأحياء الشرقية والجنوبية المجاورة لها وهي حديثة البناء نسبياً ومحلة جادة جديد ومحلة المزرعة وهي حديثة بأزقتها المنتظمة نسبياً أيضاً. ومحلة شاكر مكينجي ومحلة باشا كوبري.

دور العبادة

  يستعرض عبد الستار زنكنة أسماء الجوامع والمساجد والتكايا في خانقين فيقول؛ هناك جامع مجيد بك بابان ويقع في محلة عبد الله بك بالقرب من الضفة الشرقية لنهر الوند فيما يقع جامع مصطفى بك في وسط سوق المدينة، في مدخل محلة حاجي محلة، ويقع الجامع الكبير في محلة الجامع بالقرب من الجسر الحجري، وفي محلة الحميدية هناك جامع الحاج فتاح، وعلى الشارع العام في محلة المزرعة يقع جامع الشيخ علي، وفي محلة آغا وخليفة، من الصوب الصغير للمدينة هناك جامع الخليفة شمس الدين. أما جامع حسن أفندي فيقع في محلة جلوة على رأس الجسر الحديدي من الصوب الصغير للمدينة.

  وهناك الحسينية الكبيرة التي تقع على الشارع العام بالقرب من الجسر الحديدي، وكان الإمام والخطيب فيها السيد إبراهيم شبّر، ومن بعده انتقلت الإمامة لنجله محمد شبّر (رحمهما الله) والإمامة فيها الآن للسيد عباس ابن السيد محمد شبّر. أما الحسينية الصغيرة فتقع في محلة المزرعة.

  وفضلاً عن الجوامع والمساجد المذكورة فثمة تكايا عديدة في خانقين. ففي محلة [ تليخانة ] نجد تكية السيد عبد الله، وتكية تليخانة القادرية، أما التكية الكسنزانية فتقع في محلة [ قصري باغ ] وقد أنشأها السيد شفيق جادي (رحمه الله).

  ويعرج زنكنة إلى دور العبادة للطوائف الأخرى التي عاشت في خانقين فيقول؛ للمسيحيين هناك كنيسة باشا كوبري وتقع في محلة باشا كوبري، أما كنيس اليهود [ التوراة ] فكان يقع في مدخل محلة [ حاجي محلة ] وقبل ذلك كان في موقع بستان محمود مسعود. وقد استغلت بناية التوراة بعد هجرة اليهود لتكون مدرسة ابتدائية للبنات، ومن ثم متوسطة للبنين، ومع بداية السبعينيات جرى هدم البناية من قبل البلدية.

 

Nach den Schleifarbeiten ist das Bad wohlverdient

 

العداء شوان

  في الاستعراض الرياضي السنوي للمدارس الابتدائية في خانقين كنا، نحن تلاميذ مدرسة السعدية الثانية الابتدائية للبنين نخسر دوماً. . كانت الكؤوس كلها أو معظمها تذهب إلى رياضيي خانقين، أما نحن القادمين بفطرتنا شبه الريفية من السعدية فكنا نعود، في كل سنة، بخفي حنين. تدربنا على المسير شهراً أو اكثر على وقع العصا. . كنت في الخامس الابتدائي. . اختار لنا معلمنا الأستاذ عبد الرحمن زياً وأمرنا بخياطته ـ تي شورت أبيض وتراكسوت أبيض بخطين أسودين على جانبي الساقين وقبعة بيضاء بحافة سوداء. . علّق أحد التلاميذ وكان منقولاً لمدرستنا لتوه من بغداد " هذا يشبه زي عمال المطاعم ".  في يوم الاستعراض كان مسيرنا جيداً، على الرغم من ارتباكنا القليل. وكنا نعلم إننا سنخسر في الأحوال كلها أمام مجموعات خانقين الأنيقة بملابسها الملونة وطباليها وأعلامها. . كانت كلمة تحيز لا تفارق شفاهنا، ولكن اقولها للتاريخ. . كانوا هم أفضل منا في كل شيء. أما في سباقات الساحة والميدان فلم نكن نفلح أبداً. . بعد انتهاء المسير كنا نتوزع على الباعة الأكراد بعرباتهم الخلابة فنشتري أكياس المينو ـ نوع لذيذ من السكريات ـ وعلب المكسرات علامة ـ آجيــل عال العال ـ وأكياس البسكويت، وكلها منتجات إيرانية مهربة. وفي طريق العودة بالباص الخشبي كنا محزونين واجمين حتى انطلق محمد عباس فجأة، وهو زميل لنا، في صيحة سرعان ما شاركناه فيها " هذا الكاس يلمع، وعيونهم تدمع".

  صرخ فينا المعلم لنسكت غير أننا لم نسكت. . كان ذلك تمرداً لا يمكن قبوله من قبل معلم صارم مثل الأستاذ عبد الرحمن الذي راح يضحك حين فشل في إسكاتنا. . كانت صيحتنا تعبيراً عن غضب مكتوم، وتنفيساً عنه.

  في السنة التالية كان الأستاذ جاسم وهو أكثر معلمي المدرسة صرامة قد تسلم درس الرياضة من الأستاذ عبد الرحمن الذي نقل إلى مدينته خانقين. . دربنا الأستاذ جاسم شهرين متتاليين. . صار مسيرنا متقناً. وهناك في خانقين صفق لنا الجمهور على الرغم من تعصبه لتلامذة مدارسه، وسمعنا كلمة "ممتاز" من المراقبين الواقفين على الخطوط الخارجية للمسير، فتوقعنا مع معلمنا أن نحصل على أحد المراكز الثلاثة الأولى.

  لم يكن من بيننا أحد، بتأهيل كاف، يمكنه أن يشترك في أي سباق من سباقات الساحة والميدان. . اقترحنا على سبيل المزاح أن يشترك زميلنا شوكت الملقب "شوان" في سباق الثمانمائة متر الذي لم يكن يحتاج إلى سباقات تمهيدية، ولم يكن شوكت هذا رياضياً بالمقاييس كلها، فوافق المعلم وهو يضحك. . كان عدد المتسابقين غفيراً. . في الدورة الأولى كان شوان من ضمن اللاعبين المتأخرين لكننا جميعاً كنا نهتف "شوان، شوان" وقد شارك بعض من تلامذة خانقين قي هتافنا ذاك. . مع نصف الدورة الثانية بدأ شوكت مع دهشتنا يسرع في عدوه مجتازاً واحداً واثنين وثلاثة وعشرة من المتسابقين، وأخيراً بات قريباً جداً من المتسابق الذي كان يتقدم الجميع، وبقي متخلفاً عنه بخطوتين فقط عند خط النهاية ليحصل على المرتبة الثانية. . هنا جن جنوننا فرحاً ونحن ما نزال نهتف وقد بحت أصواتنا " شوان، شوان". كانت تلك الكأس الأولى التي تحصل عليها مدرستنا في تاريخها الرياضي. . وفي المسير لم نحصل على ما كنا نتوقع وما نستحق، وقلنا أن ذلك كان تحيزاً، غير أن كأس شوكت أعطتنا العزاء.

  في أثناء العودة، ونحن في السيارة، قال معلم الرياضة لشوكت؛ لو كانت هناك عشرة خطوات أخرى لحزت على المركز الأول.

  قال شوكت؛ أستاذ، المركز الثاني أحسن لأن كأس صاحب المركز الأول حين تسلمها معي، ونحن على المنصة، كانت مكسورة.

 

 دور السينما

 ثمة مدن مغلقة مكفهرة خانقة، تتمنع وتصد، وتضطرك إلى الرحيل، وأخرى مفتوحة للشمس والهواء، تمنحك نفسها من دون تردد فتعشقها من النظرة الأولى. . يأسرك غموضها، وتبهرك خارطتها السرية وتغويك، فتراك وقد تورطت معها في علاقة حب لا سبيل للخلاص منها، وخانقين تنتمي للنوع الثاني.

  يأخذنا الباحث  عبد الستار زنكنة في سياحة للتعرف على ماضي دور السينما في خانقين خلال القرن العشرين، وما آلت إليه مصائر تلك الدور. . يقول زنكنة؛ سينما الملك غازي كان موقعها في محلة باشا كوبري بالقرب من مقبرة المدينة، وبعد هدمها جرى بناء دائرة الري وعدة دور لموظفي الدائرة في ذلك الموقع. أما سينما الملك فيصل الثاني التي عرفت فيما بعد بسينما النصر الشتوي بعد ثورة 14 تموز 1958 فموقعها في وسط سوق المدينة وقد تعرضت لقصف شديد من قبل الطائرات الإيرانية منتصف الثمانينيات ولم يسلم من الخراب سوى واجهة البناية. وسينما النصر الصيفي التي كان موقعها على مبزل المدينة فقد تحولت بنايتها إلى ورشة حدادة. وهناك سينما الخضراء الشتوي وموقعها على الشارع العام في منطقة جادة جديد وإلى جوار صالتها كانت تقع بناية سينما الخضراء الصيفي. وكانت ماكنة تشغيل الأفلام في سينما الخضراء من أرقى وأحدث الماكنات الموجودة في العراق، وهي إيطالية الصنع وعلامتها (ماركوني)، ويذكر أن الشركة المنتجة حاولت شراء الماكنة تلك لندرتها لكن صاحب السينما لم يرضخ للعروض السخية التي قدمتها الشركة لـه على شكل أموال أو استبدال الماكنة القديمة بأخرى حديثة.

  ويتطرق زنكنة إلى عروض الهيئة البريطانية للدعاية والإعلام للأفلام في الهواء الطلق للمواطنين مجاناً حيث كانت تلك العروض تعرف بسينما بلاش، وكان موقع العرض في الساحة الواسعة أمام مبنى السراي القديم. وكانت مئات العوائل تتلهف لمشاهدة عروض الهيئة ذات الموضوعات العلمية والرياضية والفكاهية. وقد توقفت الهيئة عن إقامة عروضها بعد ثورة 14 تموز.

  وكانت من وسائل الدعاية للأفلام السينمائية وقتئذ حمل مانشيتات الأفلام بوساطة عربة ربل أو على ظهر عامل السينما وبمرافقة قارع للطبل وآخر نافخ في المزمار (الزرنة).

  في كل صيف، خلال العطلة الصيفية كان يسمح لي بقضاء بضعة أيام في بيت خالتي بدرية (رحمها الله) في خانقين. كان البيت في محلة المزرعة. . بيت قديم واسع بغرف عديدة تتوسطه باحة (حوش) أرضيتها من القرميد، وكان هناك مجاز في ثلاثة أركان من البيت مسقفة، بأعمدة خشبية. . أما السقوف فكانت عالية ومدعومة بالخشب تعشش فيها عشرات الخفافيش التي تنطلق مع الغروب وتدور في أسراب فوق أسطح البيوت. . في ذلك البيت كانت تسكن عائلتين فضلاً عن عائلة خالتي، وأفرادها من أقارب زوجها الذي كان يومها سائقاً في شرطة الكمارك. . كانت خالتي من أكثر الكائنات التي عرفتها في حياتي طيبة قلب، تراقبني طوال الوقت وتحاول أن تتأكد من أنني أكلت جيداً وشربت جيداً ونمت براحة، وتسألني بين ساعة وأخرى فيما إذا كان هناك ما يعكرني، وفيما إذا كنت بحاجة إلى أي شيء. . كانت العوائل الثلاث تعيش مع بعضها وكأنها عائلة واحدة. . تحدث أحياناً بعض المشادات التي سرعان ما تنتهي بتدخل كوميدي من الآخرين وعندها تبدأ التعليقات والضحك على أبطال تلك المشادات. . كان كل شيء يتحول إلى مناسبة للضحك والتنكيت. . كان المرح صفة كل بيت في خانقين الأمس. . كان ذلك زماناً صافياً عجيباً. . كان الجميع يتحدثون الكردية وكنت أفهم كل كلمة يقولونها وكنت أجيبهم بالعربية فيردون بالعربية أو الكردية لأنهم لم يكونوا يتحدثون التركمانية التي أتقنها باستثناء خالتي التي كانت تتقن اللغات الثلاث بطلاقة، على الرغم من كونها أمية، لا تقرأ ولا تكتب. . كان ابن خالتي عدنان يكبرني بسنتين، وكان جمال يصغرني بسنة فيما كان سيروان وسردار أطفالاً. . مع حلول الليل كنا نخرج أنا وعدنان وجمال إلى السينما، تلاحقنا وصايا خالتي في أن يهتموا بي. وفي الصالة كنت أتوسطهم في الجلوس، وأنا في أقصى حالات الابتهاج. . وكان أكثر ما يفتنني هو لحظة انطفاء الأضواء، وبدء عرض إعلانات ودعايات الأفلام التي ستعرض لاحقاً. . لحظة حبس الأنفاس، والامتلاء بالترقب السار. . اللحظة المشبعة بالأفق الذي سيشرع أمام الحواس المتحفزة. . الإشارة الكثيفة للمتعة الفريدة الهائلة التي ستقبل. ويمسي في فاصلة الاستراحة القصيرة مذاق الكولا لا يضاهى، وقزقزة المكسرات جزءاً من السحر الفذ للمكان.

  مع استمرار العرض تنهال أسئلتي على عدنان. . يجيبني باقتضاب، وبصبر، ثم يطلب مني أن أتفرج لأنني أزعج الجالسين. . أسكت قليلاً وحين أراني لا أفهم ما يحدث حقاً، أو حين تفلت مني بعض خيوط الرواية أعاود السؤال، فيهمس في أذني؛ في البيت، في البيت. وفي البيت يضطر لسرد قصة الفيلم كلها مجدداً على مسامعي.

أشياء من التاريخ

  يقودنا الباحث زنكنة في مسارات سردية منوعة فنفاجأ بوقائع طريفة تؤشر نقاط دلالة لتاريخ المدينة المعاصر. إذ أن قليلين منا، في سبيل المثال، يعرفون أن شاعر الهند الأكبر طاغور زار العراق داخلاً مدينة خانقين من إيران. وقد استقبله جمع من المواطنين في المدينة يتقدمهم الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي. وقليلون يعرفون أن خيالة روسيا القيصرية بقيادة الجنرال باراتوف الملقب بالدب الروسي قامت باحتلال مدينة خانقين لمرتين خلال عامي 1916ـ 1917 وقد منيت تلك القوات بالهزيمة على يد القائد العثماني علي إحسان باشا.

  وهناك وقائع أخرى يحدثنا عنها زنكنة بشكل سريع منها؛

·     أنشأ الملك فيصل الأول قصراً لـه في منطقة علياوة الزراعية في خانقين، فوق رابية تشرف على نهر الوند، وكان القائم على شؤون القصر والذي سماه العامة [ قلعة ملك ] العبد " نجرس"!! وقد زار الملك المدينة في العشرينيات حيث جرى لـه استقبال شعبي كبير.

·     عين الأديب والصحفي المعروف إبراهيم صالح شكر أول قائمقام لخانقين بعد تكوين الدولة العراقية الحديثة في العشرينيات.

·     في نهاية الثلاثينيات جرى إعدام ثلاثة من الغجر بتهمة القتل أمام الجمهور في المدينة، وبعد تنفيذ الحكم بدقائق وردت برقية تطلب إيقاف الحكم لأن براءة المساكين أولئك ظهرت. ولكن بعد فوات الأوان.

·     لم تسجل أية حادثة سرقة في سجلات الشرطة والقضاء في خانقين لحد العام 1957. . هذا ما أكده لي شخصياً ـ والكلام ما يزال لزنكنة ـ القاضي الأستاذ عبد القادر الجنابي (حاكم أمن العراق، ومن ثم سكرتير المجلس الوطني) إلا أنه وفي هذه السنة بالذات تم الإبلاغ عن سرقة منزل شيخ طيب هو والد الدكتور منذر البرزنجي، وبعد التحقيق ظهر أن السارق جاء من مدينة أخرى.

·     زار خانقين منتصف الخمسينيات وزير الداخلية سعيد القزاز والتقى الأهالي، متجولاً وحده في الأسواق، وكان يجامل الناس بأدب جم ودماثة خلق.

·     عقد المؤتمر الرابع للحزب الديمقراطي الكردستاني في خانقين في العام 1961، وذلك في حديقة الكازينو الواقعة عند رأس الجسر الحجري من الجهة الشرقية. وفي الستينيات أيضا زار خانقين الأستاذ جلال الطالباني حيث التقى بأعضاء حزبه وبجمع من رؤساء العشائر والمواطنين.

·     زار خانقين في منتصف الستينيات رئيس الوزراء الدكتور عبد الرحمن البزاز، ورئيس الوزراء طاهر يحيى.

·     عمل القاص والكاتب المسرحي العراقي أدمون صبري مدرساً في خانقين في بدء الخمسينيات، وعمل الكاتب المسرحي محي الدين زنكنة مدرساً فيها في بدء الستينيات، وكذلك عمل الصحافي حسين سلمان، وولد في خانقين كل من الفنانين التشكيليين د. علاء بشير، وإسماعيل الخياط.

عيد خانقين

  في صغري كنت أحسد أهالي خانقين لأن أيام العيد فيها ستة، وليس ثلاثة أو أربعة كما هو متعارف عليه لعيدي الفطر والأضحى، وبحسب معلوماتي فإن خانقين كانت تنفرد بهذا الأمر الذي يحدثنا عنه عبد الستار زنكنة؛

  ـ في اليوم الأول من العيد يقوم الأهالي بتهيئة وإعداد طعام العيد الذي يكون منوعاً، ويتزاورون فيما بينهم للتهنئة، وكذلك لتقديم التعازي لأهل من توفي حديثاً، وفي اليوم الثاني الذي يسمى بيوم (إمام عباس) يتجمهر الأهالي في الصوب الصغير عند مرقد الإمام قرب (علياوة) للاحتفال بالدبكات على أنغام الطبل والمزمار وكذلك خوض مباراة الفروسية. أما اليوم الثالث فهو يوم (علمدار) وفيه يقوم الأهالي بزيارة مقام الإمام (علمدار) في الصوب الصغير والاحتفال حول المقام. فيما يعد اليوم الرابع الأجمل بين أيام العيد حيث يخرج الأهالي باكراً إلى مقام (باوة محمود) الذي يبعد عن المدينة 20 كم شمالاً وهناك حول المقام إذ تنتشر الحقول والبساتين يفترشون الأرض، ويحتفلون ويتناولون غداءهم قبل أن يعودوا في المساء إلى منازلهم. وفي اليوم الخامس يتجهون شرقاً نحو مقام (خدر زنده) الذي يبعد 10 كم ويقع على ضفة نهر الوند، وفي هذا اليوم كان مطرب خانقين خداداد علي يشدو بالمقامات وسط الاحتفال بالطبل والمزمار (الزرنة). وأخيراً تكون كسلة العيد في اليوم السادس فيحتفل الناس فيه بالتنزه في شوارع المدينة ودروب البساتين العامرة والتجمهر في موقع الاحتفال الرئيس حيث تنتشر الأراجيح ودواليب الهواء والباعة الجوالون.

  خانقين مدينة تتلاعب بها الشمس بحنان طافح عازفة في تحولات الضوء والظل والألوان سمفونية مرئية لا تضاهى، تؤثث ذاكرتك، وتبث في النفس صدى سحر وعذوبة يتردد، إنْ زرتها يوماً، ما حييت.

إطبـــــــع العودة للفهرس

إحفظ الصفحة